هي هكذا الظروف يا بدري لا تدع لنا مجالاً لمداواة جروح قلوبنا القديمة حتى تنزل علينا بجروح أخرى أشد وطأة ، بت أشك أن الجرح الآخر سلوى للنفس و نسيان لما قبله ، ما يؤكد ظني أن الأحزان الآن متراكمة في قلبي و بعضها لكبر حجمه سد منافذ قلبي فلا تنفذ الأحزان إلى خارجه بل تتزاحم و تؤلمني كلها دفعة واحدة..
هذه هي المرة الثانية التي تأتي إليّ و الحزن يكاد يشلني ، في السادس و العشرين من آذار صادف حضورك ذكرى وفاة راشد الثالثة ، و اليوم تأتِ و تربة قبر فهد لم تجف بعد .. فهد يا بدري ، أوتذكر الطفل الوديع الذي لم أحادثك عنه قط ! تذكره صدقني أو لست تنظر للجميع بالإضافة إلي ! فهد كبر وحيداً و رحل وحيداً كما عاش وحيداً ، آلمني رحيله يا بدري و لكنني بصمت بكيته و دعوت له ، فالبكاء عليه حرام كما يقولون .. لم لا بواكي له عدا أمه و جدته ، الناس قساة قساة ، إن لم يرحمو وحدته فليرحموه لما مر به من ظلم و ضياع .. ضيعوه يا بدر ضيعوه و لكن رحمة ربي له من رحمة الناس أوسع !
أناظرك يا بدري لوحدي ، و بدر ليس معي ، ظننت أنني بابتعادي عنه سأنسى تدريجياً رباطي به ، و لكنني خدعت نفسي .. أنا أتذكره كثيراً هذه الأيام ، الحنين يكاد يفتك بي ، و لا أعلم ما آل إليه حاله .. رُبما عمد فرحهُ على أنقاض فرحي ..
و أنا أشد على الأرجوحة بالأمس و أقذفني بعيداً في الهواء أتصنع البهجة لأتخلص لفترة و لو كانت قصيرة من التفكير بحزني و فهد و أمه و راشد و تقاعس الحياة عن تحقيق آمالي الصغيرة و أمي ، صرخت احداهن بخوف أن هذا يكفي ، ابتعدت كثيراً ، و لم تعلم أنه لو كان بيدي لقذفتني في الهواء و لكن لا أجنحة لي لتحملني عليه و ليس بيني و بين السماء مودة فتحفظني من شر الجاذبية و السقوط ! هي لا تعلم بأنني لو اخترت لوددت أن أبتعد عن الأرض التي ما عدت أظنها تطيق حملي ، أن أبتعد إلى الأعلى ، إلى بطن السماء و فوق الغيوم ، لن أطلب العودة اكتفيت من قهر أهل الأرض و تعبهم و كل أشكال العناء .. هي لا تعلم أنني أقذفني بالهواء لأرسل أحزاني بعيداً في المدى ، لأنزع من نفسي آهاتٍ لم أعد أطيق زفرها فاحتبست و تضخمت في حنجرتي و لم تعد حنجرتي قادرة على النطق و لا الصراخ بل بصمت الاحتقان و البكاء ..هي لا تعلم أنني كبرت و لا زلت أجد سلوتي في الأرجوحة و معانقة السماء و إن لم تستقبل عناقي بحرارة كما أفعل و بابتهاج .. هي لا تعلم رُبما أن ضحكاتي مصطنعة بينما الأطفال من حولي لا يعون معنى الاصطناع ! هي لا تعلم والله بأن خلف هذه الضحكات قلب نازف ، متعبٌ ، مُنهك ، حزين ..
آه !
مشتتة ، متعبة ، حزينة ، و ضائعة بين المتعبين و أهفو إلى قلبٍ كقلب بدر الذي كان يضمني إليه ، يدخلني في جوفه ، يمتص كل أحزاني ثم يخرجني خالية من كل الشوائب و الهموم ، نقية أستقبله و حبه بكل حبور و فرح .. و لكن ، لا قلب كقلب بدر .. حتى أن قلب بدر لم يعد كما كان عليه في السابق ، لم يعد قلب بدر هو قلب بدر بل إن بدر نفسه لم يعد هو بدر! حتى أن ناظر السما الليلة يا عمري بدر لا زلت أذرفها كدمعي و أنزفها كدمي و لكنها لم تعد تحرك في بدر خلية قلبية واحدة ! أًبح بدر ككل الأشياء التي تغير جلدها من حولي ..
أف يا بدر ! هل تمر بنا الذكريات و نحن حُزانى ، أأنت كمثلي حزين ؟! غائمة هذه الليلة بحزني يا بدر .. غائمة والله .. كنت أظن أنني انتهيت من تطبيق دروس البكاء بلا دموعٍ في الحياة ، و لكن يبدو أن الطريق طويل دون انتهاء !
[ مسج / صادر ] :
ناظر السما الليلة يا عمري بدر !
أعلم أنها لن تصل ، و لكن وفاءً لذكرى آمل ألا تخونني بل تصحبني إلى النهاية .......!
لن أتوب عنك يا بدر ،
لن أتوب عنك حتى تؤؤب إليّ حتى تؤؤب ....!