أبعاد حرف الجر لدى الحميدي الثقفي.. أكبر من قصيدة!
فضاء:
لن ندرك أن الشعر آية جمالية ما لم يضخ النص في أوردة الذائقة أفيون التجلي، أو يحكّ صدأ الذات لدى القارئ بمحك الدهشة ويكنس عنها الرتيب من التكدسات السطحية. الشعر ليس هذا الوعاء المصفح الذي عشنا نملأه بكلامٍ عابر، لنصبح الأحق باتهام الآخر لنا كوننا العابرون فوق الكلام العابر، إنما الشعر ـ كما أعتقده صواباً ـ هو أن نتحول بكيفيةٍ ما.. وبين طرفة عين وانتباهة إلى مخلوقات أخرى تخرج عن طور الإنسان العادي، نصبح بأجنحة، نتأوه، نعيش ولو لوهلة ضئيلة مدداً من الأخيلة والشعور والحس غير المرئي، هناك بعيداً ما بيننا وبين ذواتنا جراء اختلاج الأفئدة بمعانٍ غير مألوفة، صُبّت عليها من سماءٍ أخرى، قد تكون سماء الشعر!
بابٌ للشعر:
[POEM="font="Simplified Arabic,5,darkred,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=1 align=center use=ex num="0,black""]صبّي الغيم يا سلمى لناسٍ غلابه=من عطشهم على الما.. يحلبون السراب![/POEM]
يحولني الحميدي الثقفي ببيتٍ شعريّ وحيد إلى فارسٍ ضرغام، مدجج بأسلحة الوعي وأنا أواجه شعراء الفصيح، أو نخبة منهم، حين يعرفون الشاعر الشعبي/ النبطي/ العامي كالتالي:
رجل بدوي، رث الملابس، يطوّق باطن قدميه بقطعةٍ من جلد جمل، رُبِطت باستخدام خيوط الوبر وشدت بدقةٍ وعنايةٍ مشكّلةً له نعليه، مسنداً هذا الرجل ظهره على جذع السمر أو السدر، يجلس القرفصاء على كثيب رملٍ أصفر، وأمامه ترعى أنعام وإبل القبيلة، وهو ممسك بعصى الرعاة ليخط بها الشعر!!
في بيتٍ وحيدٍ للحميدي الثقفي، يحق لنا كشعراء أو متذوقين للشعر الشعبي (مع اختلاف مسمياته أو تسمياته) أن نتحول إلى أرقى شرائح الأرض من الناس، ونكسر الأطر والبراويز الركيكة التي نُصبت لملامحنا من قبل الآخر المتاخم لحدودنا، لنخرج في اعتزازٍ وأنفة مرفوعي الهامة، منصوبي الجباه.. كل ذلك يحدث حين يقودنا الحميدي الثقفي ببداوته إلى قلب الحضارة والتمدن وهو يرتكب الإبداع بــ(حرف جرٍ) صغير، قبل أن يبهرنا بفضاءات شعره وأخيلتها الجامحة.
فحين يحاكي الثقفي الحياة بــ(سلمى) .. وجب علينا التمهل والحذر، ومحاولة التخمين إن لم نملك آلية استقراء القادم، فمن ذا الذي يستجدِ الحياة بــ(صبي) سوانا نحن (الغلابة) يا ترى؟!..
إن كل كلمة وكل تركيبة لغوية داخل هذا البيت الخالد جاءت منتقاة بعناية وامتياز من قبل شاعرها، فالغلابة ليسوا هم الفقارى أوالمساكين، الغلابة أعظم وأهول من هؤلاء، لاحظوا أن حاجة الفقير إلى الماء موجودة ولكنها تُسدّ في وقتٍ وشيك، إنما الغلابة هم دركٌ آخر للعدمية، دركٌ قد لا تأتي بعده طبقة أخيرة، الغلابة لا يتمنون الخبز، لأن مجرد تمنيهم للخبز قد يصيب أمعاءهم يالتليّف، إنهم بحاجة ماء، ماء فقط، كي يحفظوا كرامة الوجه لديهم أمام أبنائهم.. ويحافظون على تلك الكرامة بيضاء في الوجه وفي الداخل.
صيد:
(من عطشهم على الما)
مربكٌ حرف الجرّ (على) حين يأتيك من وجع الحميدي، تتداخل الأبعاد الكثيرة لتحط متشابكة أمام ناظر القارئ، وأجدني هنا ـ على مستوى الحالة الشخصية ـ مركون بين بُعدين رئيسيين، الأول هو الظاهر في المعنى، والآخر قد يكون خلاصة جيدة للمسكوت عنه في هذا الشطر..
الظاهر في المعنى:
هو أن الغلابة هنا في مشهدٍ طبيعي قد وقفوا أمام نبع الماء، متلهفين لسد العطش، إلا أن الطبيعة القاحلة أمام نواظرهم هي من خيلت لهم (السراب) بالماء..، وهي آية واردة عند أهل الصحراء على وجه الخصوص، فعادة ما يتبادى لنا السراب حين نكون في درجة عالية من درجات العطش، ويؤلمنا السراب أكثر حين نقارع مرحلة الظمأ. فهنا يحدثنا حرف الجر (على) عن وقوفنا مشدوهين أمام مشهد طبيعي مرئي، وارد، فنحن نقف (على السراب) معتقدين أننا نقف (على نبع ماء)، لما يخلفه العطش فينا من لهاث ولهاث، وأصبحوا (أي الغلابة) دون حولٍ أو قوة يستجدون الغيم، متضرعين إلى الله أن تهبهم الحياة مطر الغيم، وبعد أن أدركوا القسوة التي تمارسها طبيعية الأرض والحياة من حولهم، تحولوا نحو تصوير السراب بضرعٍ حلوب، يدر عليهم الماء، بعد أن جلدهم الوقت بسياط العطش طويلاً، ليوقفهم عند قارعة النهاية/ الموت.
المسكوت عنه:
ماذا لو كان الغلابة ـ بالفعل ـ يقفون (على نبع ماء) عطاشى؟ وصلوا عند حافة النبع أو ضفته، بعد أن اجتازوا المفازات والأديم القاحل، باتجاه هذا النبع سعياً منهم لسد العطش، وهم الآن تحديداً عند/ على/ فوق/ نبع الماء؟!.. لكنهم لا يستطيعون الشرب، أو بالأحرى.. ثمة قوة خارجية لا تأبه بحالتهم المزرية، ولا تهتم بمستوى الموت الذي هم عليه الآن.
كفة راجحة:
(على الما).. وأجزم أن الصورة الثانية هي المرجح ارتكاب رسمها وتخيلها في هذا البيت، والنداء الأول (صبي الغيم) هو الأمر الذي يجعلني أكثر تآلفا مع هذا البعد أو المعنى، فحالة العطش وإن أشارت إلى قلب القحط أو أكدت على أن الغلابة في موسم الصيف المتوحش هنا على أرض الجزيرة، فهذا لا يعني أننا غافلون عن الموقع الجغرافي لجزيرة العرب على خارطة العالم، ففي هذا المكان تُحكِم يد (القاعدة المناخية) قبضتها على الجفاف أغلب أوقات العام، فقاعدة مناخنا الصحراوي تنص على أنه (مناخ حار جاف صيفا، بارد شتاءً).. ما يعني أن الصيف حارق الآن فوق رؤوس (الغلابة) وما من مطرٍ قد تلوح بوارق مجيئه، ولذا.. كان عليهم (أي الغلابة) أن يبحثوا عن مورد الماء في جهات الرمل، ذلك أن مناشدة الحياة (سلمى) واستجدائها بالغيم والماء لن يكون هو درب الخلاص. خذ زمن كتابة الحميدي الثقفي لهذا البيت على محمل التركيز والتدقيق، والضرورة، فهو بيت جاء ضمن قصيد كُتبِت في الألفية الثانية من القرن الميلادي، ما يعني أن (التيه) في جمر وعطش الصحراء العربية قد يستحيل عليه إنهاء حياة الإنسان الطريد الشارد، ذلك أن أغلب المدن والعواصم على أرض الجزيرة العربية قد قامت على أرض الصحراء، ولم تعد الأرض في زمن هذه الألفية موعداً للموت قدر ما من الله عليها بالنبض والحياة.. وفي أغلب أرجائها وأصقاعها.
الكفة الأرجح:
ضاعت الحيلة لدى الغلابة بعد أن قطعوا مشوار التعب في سبيل الحصول على الماء (أضعف الحقوق/ أقل الإيمان) للمواطن، ووصلوا بالفعل عند المصب أو النبع أو ضفاف الماء، ليجدوا أنفسهم ( ممنوعون) عن الشرب ولم يعد باستطاعتهم ـ مع الأسف الشديد ـ قتل العطش الذي يغتال أوردتهم، ما جعلهم يعيشون مرحلة من اليأس والإحباط ، وربما أودى بهم الحال لأكثر من ذلك، فلم يبق في يد (الغلبان) حيلة أخرى سوى استجداء السماء أو توسل الحياة (سلمى) بــ: (صبي الغيم)؛ طالما أن من في الأرض لم يعودوا بآدميتهم أو إنسانيتهم، واختفت الرحمة عن ضمائر وقلوب هؤلاء، وجعلوا من الغلابة ضرباً من المحقّرين المهضومين عن جدارة واستحقاق.
منخل البعد:
إن الصورة الآنيّة للمشهد الطبيعي موجودة بارزة داخل بيت الشعر أعلاه ، ولكنها مستبعدة من منطق الشاعر المجتهد، أي أن الحميدي الثقفي.. يعلم ـ كما هو معلوم لدى أغلب الناس ـ أن السراب خادع، كدموع التماسيح، إذن: فهو ليس ملزم بتكرار المعنى، وليس الشاعر المجتهد من يطرق المسمار على برواز مكرر، باستطاعة أي عابرٍ إنشاءه. إن حرف الجر (على) ليس هو ذاته المصطفّ بين حروف الجرّ الأخرى، بل هو إشارة إلى نقطة وصول (عند)، والذي يريد أن يقوله الحميدي هنا:
أن الغلابة موجودون الآن على رأس النبع ، وليسوا أمام/ على مرأى السراب، ولكنهم لن يستطيعوا الحصول على شيء.. لمجرد أنهم (غلابه)!!.. فأي نبعٍ ماءٍ هذا الذي يحول النفس البشرية إلى ما يشبه أنياب الحيوانٍ اللاحم، ويجعلها تذود عن نبع الماء كما يذود المجاهد عن أرضه المحتلة؟!.. هل حقاً أنه نبع ماء أيها الحميدي الثقفي؟!
البعد الواحد، يجلب الأبعاد الأخرى صوب المخيلة.. تترى:
إن الشاعر الحقيقي منفلت عن أبجدية السرد انفلاتاً مطلقاً، وليس هو من يوظب لنا المرئي في قالبٍ مرئي مماثل، وليس الشاعر الحقيقي من يَصُفّ لنا الرتابة بانتظامٍ فوق جسد الرتابة المعتاد؛ هذا الجسد الآخر المزروع منذ أمدٍ بعيدٍ بين أصابع أو سيقان دواخلنا. لذلك فنحن دائماً ما نجد الحميدي الثقفي شغوف بارتكاب الأبعاد الأخرى، تلك المشاهد الحقيقية ـ أقصد الفجائعية منها ـ التي يعجز الإنسان العادي سرد تفاصيلها أو التعبير عنها كما أنزلتها عليه الطبيعة، أو تلك التي فرضها عليه واقعه المُعاش، فليس الحميدي الثقفي ـ وهو المالك الأول والأخير لــ (شمس أبجدية) ـ من يحب الثرثرة أو الهذي على المشهد المألوف بمألوفٍ مثله وعبر نسخة كربونية مطابقة له، إنما الحميدي هو البدوي/ الحضري/ الذي يصلح في كل مكانٍ أو زمان لصنع الخضرة، على الرغم من أنه يأتي في أول القائمة الخاصة بــ(أشد أنواع الغلابة من البشر) كما يتضح لي ذلك من خلال تجربته الشعرية الناضجة. وحين يحدثني أصدقاءه (عيضة السفياني أو محمد الوسمي) عن شكل الواقع المؤلم الذي يقتات بالظلم وبالجبروت من حياة الثقفي ليل نهار، فأنا لا أبكي أبداً أو أتألم لأجله، لا أتعاطف معه البتة، إنما أجدني أسند رأسي على أي جدار مثقوب، قد تكون حياتي برمتها عرضة للخطر بجوار هذا الحائط وكواته أو ثقوبه، والذي قد تخترق أي رصاصة (حكومية) أو (طاغية) أو (مغتصِبة) مساماته لمجرد جلوسي هنا خارج المتاح عند هذا الحائط، وبحجة أن ظهري قد استند على ممتلكات محظورة ليس لي حق اختراق خطوطها الحمراء. أنا أملك الـ(فيتو) بأكمله أيها العالم؛ لأنني مخدر بأفيون دهشة، مبنج بالشعر الحقيقي الذي مرره الحميدي الثقفي (سيد الغلابة) داخل أوردة الدم، هذا الشعر الذي أحالني إلى جسدٍ مجرد، مرئي نعم.. ولكنه بروحٍ أخرى، لا تطالع العالم، إنما هي راحلة في أمان الشعر.. إلى مدارك الصدق واللا مألوف.
في برد: 2004
Jamal