ناصر حطاب ولغة التغريب في نص (بقايا غريب)

[مشعل الذايدي]

[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
إيه أنا من تركتيني [ بقايا غريـب ]=لا معي عنفوان و لا بصـدري جلـد
احترفت المساري والمساري تجيب=كل وجهٍ فقدته ماتخلي احد
يا كثر ما فقدت إ/من الاوادم قريـب=مير فقـد الحبايـب للحبايـب وحـد
صرت اهاب المنازل عند وقت المغيب=صرت ادوِّر مساكن قبـل أدوِّر بلـد
علميني مدامي فـي عيونـك أديـب=كيف أخلِّي كلامي في ضلوعـك وتـد
كيف أمرر بقايا من غريـب ٍ كئيـب=بين كفِّيك .. واحيا بلا حنين و سهد
من رحلتي و انا اعزف للأماكن نحيب=ما قدرت أعزف اللي يسعد الناس أبد
ليت وقتي يهرِّبني معه قبـل أشيـب=واعتزل عن غياب ٍ ماعرف له أمـد
كل ما جيت أحاول عن ملامحك أغيب=بوقفن فـي طريقـي ذكريـات و أرد
ايه .. أنا في غيابك فاقد ٍ لي حبيب=لكن أنت ِ فقدتي في غيابـك ولـد
[/poem]


القراءة :

[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] ايه أنا من تركتيني [ بقايا غريب ]=لا معي عنفوان و لا بصدري جلد [/poem]

يستهل ناصر في باكورة أبياته على لوحته الرائعه بقاياغريب وكأنه يرد بكل عتب وحزن في ذات الحاله على تساؤل ربما برق هناك في مقلة من أحبها ولمحه الشاعر يتسربل بالدمع والغربه ليحط في حاله من الأستغراب والذهول على ما آل اليه حاله ( أي الشاعر ) من الانكسار والذي جعله يتناثر بين اروقة الشجن وكأنه قطع من الفسيفساء فقدت من جمعها ورتبها ليؤل بها الحال الى أن تصبح خليط من الاحجار معدومة الهوية الى الحد الذي استدعى ان يصرح الشاعر بهويته عندما اورد في مطلع البيت الاول ( ايه انا ) وكأنه يصرخ ولكن بهدوء الحزن وبهيبة الغياب ولك ان تتخيل عزيزي القارئ ما يجول بخاطر وقلب من يضطر ان يعرًف بنفسه الى من احبها واحبته ذات زمن .. انها ازمة حب بل ازمة انتماء في اطار الاخر الغائب باختياره .. هذه الاسقاطات النفسية الصرفه والتي رماها الاخر في سماء الشاعر جعلته يسلب من عنفوانه ويفقد صبره وجلده في مواجهة الاثار المترتبه على هذا الفقد .. ربما يستهجن البعض من الشاعر ان يعترف هنا بأستلابه
من عنفوانه الا ان ايرادها واقصد هنا مفردة ( عنفوان ) ومن وجهة نظري كانت موفقه سواءاً من ناحية توافق اللفظ مع المعنى او حتى من ناحية التركيب اللغوي والانسجام مع التوافق الأيحائي لان العنفوان هنا كان بمثابة الرفيق الذي لازم الشاعر فترات طويله ولم يكن هو العنفوان الذي يمتلكه أي منا والذي يكون مقره القلب ولسانه العقل بل كان هو الرمز للاخر أي المحبوبه ... ناصر كان ذكياً جداً هنا عندما أختار مفردة ( معي ) ولم يقل ( مابقى ) مثلاً او ما يوحي انه فقد عنفوانه هو... لذلك كان العنفوان هنا هو بمثابة الاخر وعلى العكس من ذلك كان الفقد الذي خسره الشاعر من ضمن الحاله الفقديه والذي يحسب كجزء لايمكن اجتثاثه من اجزاء وتراكيب الشاعر هو ( الجلد ) أي الصبر.. هذا الجلد هو ماكان يمثل فقدا حقيقياً لناصر حطاب وبكل وضوح وربما دل على ذلك استخدامه لمفردة ( بصدري ) أي تحديد موضع المفقود والذي كان يقطن بين ضلوع الشاعر كانت الاشاره هنا واضحه جداً على ان الصبر والجلد هما مايمثلان الأنتماء الطبيعي في نفس الشاعر قبل حالة الفراق وهما ايضاً ما كانا يمثلان الاجتاث من صدر الشاعر في حالة ما بعد الفراق .


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
إحترفت المساري و المساري تجيب=كل وجهن فقدته مـا تخلـي أحـد

[/poem]
ناصر لم يورد هنا في راس هذا البيت مفردة ( احترفت ) الا لحاجة في نفس يعقوب فالاحتراف يعني التوغل في الصنعه وسبر أغوارها ولايتأتى هذا المعنى الادراكي لفعل الاحتراف الا بعد مدة من الزمن طويلة عمرياً فاحتراف المساري يعني الخبره في سلك دروب الليل ايحائياً وهذا ما يعنيه الشاعر هنا وليس السير المادي والمتعارف عليه والاثبات على ذلك هو تصريح الشاعر ان ( المساري ) وهي الدروب في عتمات المساء اضحت او انها فعلاً هي من تجتر كل وجه وملامح فقدها ناصر في خضم الترحال بين المسالك وهذا الاتيان بتلك الاوجه وعلى هذا النحو الجماعي والذي أشار اليه الشاعر بمقطعه ( ماتخلي أحد ) لايكون مادياً لأستحالته أصلاً لذا نتيقن هنا أن التخيّل هو عرّاب هذا البيت ان لم يكن ديدنه


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] يا كثر ما فقدت إ/من الاوادم قريب=مير فقد الحبايب للحبايـب وحـد [/poem]

عند وصولي لهذا البيت لا اعرف مالذي جعل الذاكره تجتر لتردد هذا البيت لبهاء الدين زهير :
يعز علي حين أدير عيني =أفتش في مكانك لا اراكا
ربما هو الفراق ولكن بأبشع صوره .. ناصر حطاب يؤكد في مطلع هذا البيت أنه تعرض لآلام الفراق والبعد وليس هذا فقط انما نستدل من خلال مفردة ( ياكثر ) وكأنها أعلان لكمية من الفقد تجاوزت الحد في عيون الشاعر ورغم ذلك الا ان كيفية الفقد هيً ما جعلت الشاعر يستثني الفقد بين المحبين ويجعله اكثر ايلاماً ووجعاً من الفقد بين ذوي القرابه والتي ربما لا يجمعهم الا الاسم .. لا شك ان الفراق كلّه ذا وجع وطعنات لا تختلف فيما بينها الا انه يكون اقسى وقعاً على من تركوا اثارهم في قلوبنا ونقشوا ذكرياتهم في جدران الزمن وهذا ما حدا الشاعر الى أن يستثني فقد الاحبه لبعضهم حينما قال ( مير فقد الحبايب للحبايب وحد ) .


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] صرت اهاب المنازل عند وقت المغيب=صرت ادوِّر مساكن قبـل أدوِّر بلـد [/poem]

الخوف من المكان والزمان والبحث عن الاخر البديل مهما كان .. هو ما يود ناصر أن يوحي به الينا وبشكل صريح ومبسط ..ولكن هناك اسئله قد تخطر ببال من يقرأ هذا البيت وتلح في استجداء الاجابه ومنها لما الخوف من وقت المغيب بالذات لما لم يكن الخوف من الليل وظلامه الدامس ؟! لما الخوف من المنازل اوا ليست هي مساكننا؟! ذكاء التقاط المفرده وتوظيفها في محلها بل ومكانها الجدير بها هو ما جعل الشاعر يقدم المكان ( المنازل ) على الزمان ( المغيب ) فالتحول النفسي والذي رصدت له مفردة ( صرت ) هي ما اوحت لنا في مطلع البيت ان هناك انتقاليه من مرحلة الى مرحلة اخرى مغايرة تماماً بحيث كانت الصورة تماما مطابقه للانتقال الايحائي في نفس الشاعر من خوفه وتهيبه من المنازل والتي ربما تكون هي الرمز او الموقع الذي كان مسرحاً لسمفونية الفراق ان صح التعبير فالهروب من تلك المنازل والخوف منها امر طبيعي للابتعاد عن مكان الفقد والأختيار لوقت المغيب كان فيه من التوجس او المعايشه النفسيه المرّه والتي خاضها الشاعر في اوقاتاً سابقه ماجعله يدرك ان المغيب هو بمثابة صافرة الانذار لوقوع الغارات النفسيه الموجعه في عتمات الليل لذا نجد ان الهلع الذي يصيب الشاعر من وقت الغروب ( المغيب ) هو هلع او خوف نفسي متعلق بما بعد المغيب والذي يعي هو وحده مايجرّه الليل اليه من اهات واحزان لا ترحم .


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] علميني مدامي في عيونـك أديـب=كيف أخلِّي كلامي في ضلوعك وتد [/poem]


السؤال الصعب هنا يرميه ناصر حطاب في ملعب من يحب علّه يجد الاجابه المستحيله أو لنقل الحلقة المفقودة في نظره .. بدايةً كان الطلب والمتخم بالرجاء الضمني الغير ظاهر بالرغم من الايحاء الاولي للمفردة ( علميني ) والتي تترك في نفس المتلقي شعور تركه ناصر يشير الى مرحله او حاله من اليأس في الوصول الى غايته وهي أن يترك بصمه في قلب من احبها ويستدل على هذا من خلال ( كيف أخلي كلامي في ضلوعك وتد ) يريد الشاعر هنا ان يحظى بما يشبه المعونه من خلال التوجيه الذي طلبه من الاخر ( كيف اخلي .. ) اراد ان يصل لغايته في امتلاكه لأدوات التأثير على محبوبته ولكن فقده للوسيله المناسبه جعله يصرخ وبكل وضوح كيف استطيع ان انحت من كلماتي لوحة من الفسيفساء العشقيه ( علميني ) الست انا في نظرك اديب ها انا ذا اطلب منك ان تجدي لي كلمات لم اجدها في قاموس عشقي ولا في دفاتر غرامياتي... كلمات تبقى ثابتة كالوتد في قلبك لا يزيلها شئ


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] كيف أمرر بقايا من غريب ٍ كئيـب=بين كفِّيك .. واحيا بلا حنين و سهد [/poem]


السؤال هنا موجع الى الحد الذي يجعل القارئ يستعشر مرارة الغربه بكل جدبها وضيق مساحاتها وكأن الشاعر فقد من العقد واسطه وحداه وقر الشوق أن يستنجد بالوسيله ( كيف امرر بقايا من غريب ... ) اراد ان يتسلل من خلف الحدود واقصد بها هنا حدود الغربه وكأنه يتخيل الطريق الى الهرب وهو العبور بين ضفتي الامل واشار لهما ناصر ب ( بين كفيك ) هناك لوحة اخرى هنا تصر ان تظهر وهي مغايره للاولى (وهو العبور للامل والالتقاء بمن يحب ) انها الهروب من اللقيا بذاتها وطلب الشفاء من الاخر عن طريق كفيه انها الانسحاب ولكن بطريقة الاستشفاء من العشق وكان ناصر هنا اراد ان يضع القارئ او حتى الناقد للنص بين خيارين لم يصرح باحدهما دون الاخر الاول وهو الهروب من الغربه الى وطن محبوبته والخيار الثاني هو الهروب من الاخر بمساعدته ولكن يبقى الشاعر تائهاً محبوساً داخل سياج من الذكريات والتي جعلته يفقد الفرح او الابتسامه على أقل تقدير ولو مجاملةً لأن فاقد الشئ لايعطيه وربما هذا ما اراد ناصر ان يوضحه في سياق البيت القادم .



[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] من رحلتي و انا اعزف للأماكن نحيب=ما قدرت أعزف اللي يسعد الناس أبد [/poem]


في هذه الصورة الشعرية الرائعة تلتقي عند ناصر حطاب عاطفة اللاشعور ( ماقدرت أعزف ) والتي يسمو فيها الشاعر على المادة من وراء استنطاق الصور حتى يترجم بالكلمات عمّا لايدرك .. ولهذا يرى ( اندريه بريتون ) ان (( اقوى الصور هي الصور التحكمية التي يصعب على المرء ان يترجمها الى لغة عملية )) انها حاله من عدم الاستطاعه واستحالة التمثيل العاطفي على الاخرين انغلاق شعوري ارتكبه ناصر في حدود الوجع المرسل من فقد الاخر .


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] ليت وقتي يهرِّبني معه قبل أشيب=واعتزل عن غياب ٍ ماعرف له أمد [/poem]

امنية يطلقها الشاعر هنا تمثلت بمفردة ( ليت ) والتي تدل على التمني اراد ناصر هنا الهروب من الزمن بمساعدة الزمن مفارقه مؤلمه اضطر الشاعر ان يترجمها رغماً عنه لان المتحكم المطلق بأبجديات العمر هو الزمن .. اراد الاعتزال عن مرحلة تتسم بالمراره والابهام حتى ان نهايتها لاتبدو ذات نهايه والصوره التي تولدت هنا في ذات الشاعر تلقائياً بين امنية الهروب ( ليت وقتي يهربني ) واعتزال الغياب ( واعتزل عن غياب ) كانت ذات نطاق حسي كبير حتى انه الشعور هنا استطاع ان يوصل بين المحسوس ( الوقت ) والعاطفه ( قبل اشيب ) بيت رائع وفق فيه ناصر الى حد كبير في استدراج المألوف ( الشيب ) الى الغير مألوف واقعاً وهو الهروب من الزمن .


[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] كل ما جيت أحاول عن ملامحك أغيب=وقفن فـي طريقـي ذكريـات و أرد [/poem]

اكثر من محاولة للهروب ( كل ما جيت احاول ) باءت بالفشل لتعثر الطريق ب ( ذكريات ) كانت هي العائق في نظر الشاعر من ان يكمل المحاوله للانطلاق الى آفاق اوسع قد تكون مليئه بالخيارات المتباينه والذكريات هنا تمثل في نفس الشاعر ( اللاوعي الاجتماعي ) والذي تشكل سابقاً من مجموعة صور فردية ذاتية اثناء التقائه بمحبوبته ذات زمن لينتقل فيما بعد الى عالم اللاشعور المكبوت ومن ثم الى صور انسانية عامة في عالم الشعور والذي اعاق هروب الشاعر بسبب الحصار المتولد من اجترار الملامح ( عن ملامحك ) وتخيل الصور الماضية وربطها بالمدركات عند الشاعر وهي ( ملامح محبوبته )



[poem=font=",6,,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=0 line=0 align=center use=ex num="0,black""] ايه .. أنا في غيابك فاقد ٍ لي حبيب=لكن أنت ِ فقدتي في غيابـك ولـد [/poem]

هنا وفي هذا البيت والذي يمثل خاتمة الرائعة ( بقايا غريب )يستهله ناصر حطاب باعتراف صريح وهو الاقرار بفقده للاخر وليس هذا فقط انما تولد من هذا الفقد خسارة محب او ( حبيب ) كما اورد ناصر هذا المعنى بهذا اللفظ ..ولكن يستدرك ناصر اعترافه ذلك بتيقنه من ان الاخر فقد ايضاً في غيابه هو _ أي الشاعر_ ( ولد ) هذه المفرده الشمالية البحته والتي تدل على من تطلق عليه في سن الشباب بالمرجله وقوة البأس والطيب .. لذلك اراد ناصر ان يختصر كل تلك الصفات بمفرده اتوقع انا انه وفق باختيارها _ شمالياً على اقل تقدير _ في ايصال ما اراد ان يوضحه ناصر من فداحة الخساره والتي تقع على عاتق الطرف الاخر من فقده لمحب بهذه الصفات .
انتهى ،،،

 

[خالد العزاب]

ناصر حطاب الدهمشي !!


الأكثر رحابه في الخيال والإدارك
والأكثر جوده في ترابط وتراصف النص
شاعر يحيك من الصدف ويغزل بخيط شعري لا ينبغي لغيره!
بإختصار شاعر يستحق هذا الاسم وكثير!
ونصوصه تثبت ذالك!!


الجميل هنا يامشعل هذا الكم الكثيف
من القراءه الجميله الواعيه !!

انت شاعر وتعلم مدى شعورك عندما تجد شخص يجوب بين مدائن النص بهكذا تمعن !!
كيف لا وهذا الشخص هو الاكثر علماً وشاعراً!!


مشعل

انت رائع وخالق الخلق!!

 

[إبراهيم الشتوي]

قراءة مشرقة مغدقة ..
شكراً لك يا مشعل على هذا الضوء ..
والشاعر :ناصر حطاب دائماً ما يترك للجهات حديث الغيم والنوارس ..
تقديري .