حِوارَاتٌ مَعَ الغَرِيبِ: مِرآةٌ تَسْأَلُ، وَصَدًى يُجِيبُ!
(رِحْلَةٌ فِي أَعْمَاقِ "الغَرِيبِ" المُقِيمِ فِينَا، حَيْثُ تَتَلاشَى الحُدُودُ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ).
كَانَتْ أَصْوَاتٌ خَافِتَةٌ
تَخْتَرِقُ زُجَاجَ المِرآةِ،
حِوَارٌ يَتَدَحْرَجُ بَيْنِي
وَبَيْنَ ذَاكَ الغَرِيبِ المُقِيمِ فِي أَعْمَاقِي.
تَنْفَتِحُ نَوَافِذُ الذَّاكِرَةِ
عَلَى مَشَاهِدَ لَمْ تَكْتَمِلْ.
لَمْ يَكُنْ صَوْتُهُ وَاضِحًا دَائِمًا،
بَلْ كَانَ يَأْتِي أَحْيَانًا كَصَدًى بَعِيدٍ،
وَأَحْيَانًا كَفِكْرَةٍ لَمْ تُولَدْ بَعْدُ.
فِي حُضُورِهِ،
كُنْتُ أَجِدُنِي أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ،
وَأَقَلَّ مِنْ ظِلٍّ.
هَمَسْتُ لِلْجُدْرَانِ ذَاتَ مَسَاءٍ:
كُنَّا نُولَدُ كُلَّمَا سَمِعْنَا النِّدَاءَ،
فَأَجَابَنِي صَدَى صَوْتِي
كَابْتِهَالٍ طَوَاهُ النِّسْيَانُ.
لَمْ تَعُدِ المَآذِنُ تَسْتَقْصِي عَنْ أَسْمَائِنَا،
بَلْ تَتَسَاءَلُ،
وَكَأَنَّهَا الغَرِيبُ ذَاتُهُ يَتَرَدَّدُ فِي صَدَاهَا:
أَيْنَ غَابَتِ القُلُوبُ العَارِفَةُ بِطَرِيقِ العَوْدَةِ؟
أُجِيبُهَا وَحُزْنٌ غَامِضٌ يَخْنُقُ حَنْجَرَتِي:
صِرْنَا نَرْفَعُ الأَكُفَّ،
وَنَنْسَى أَنَّ الخُشُوعَ يَنْبَثِقُ مِنْ انْكِسَارِ الجُفُونِ.
فَفِي زَحْمَةِ التِّيهِ هَذَا،
عَادَتْ بِي الذِّكْرَى إِلَى فَجْرِ التَّكْوِينِ.
فِي الطُّفُولَةِ،
كَانَتِ المَدْرَسَةُ بَيْتَ الحُرُوفِ الأُولَى،
وَبَيْنَ المَقَاعِدِ البَالِيَةِ،
تَذُوبُ الطَّبَاشِيرُ كَدَمْعِ الحُرُوفِ البِكْرِ،
وَكَانَ المَطَرُ يَقْرَعُ زُجَاجَ النَّوَافِذِ،
كَأَنَّهُ يُنْعِشُ الذِّكْرَى مِنْ سُبَاتٍ طَوِيلٍ.
هُنَاكَ،
فِي الزَّوَايَا،
يَسْكُنُ صَمْتٌ كَخُشُوعِ المُنهَكِينَ،
وَيَقِفُ ظِلُّ المُعَلِّمِ المُسِنِّ
يُلَقِّنُ الصَّمْتَ دَرْسًا بِلَا مُسْتَمِعٍ.
يَهْمِسُ: ابْدَأْ بِالكَلِمَةِ!
لَكِنَّ الأَعْيُنَ تَتَطَلَّعُ نَحْوَ الفَرَاغِ،
فَقَدْ صِرْنَا فِي تِيهٍ غَابَتْ فِيهِ قُدْسِيَّةُ المَعْرِفَةِ.
كَأَنَّمَا الكَلِمَاتُ هَجَرَتِ الكُتُبَ،
وَصَارَتْ رَهِينَةَ سُوقِ المُقَايَضَةِ وَالطَّلَبِ.
وَكَأَنَّ تِلْكَ الطُّفُولَةَ،
كَانَتْ بِدَايَةَ التِّيهِ،
حَيْثُ آمَنَّا أَنَّ المَعْرِفَةَ سِلْعَةٌ،
لا حِوَارٌ مَعَ اللامُتَنَاهِي.
المَدْرَسَةُ لَمْ تَكُنْ جُدْرَانًا وَأَجْرَاسًا فَقَطْ،
بَلْ كَانَتْ بِدَايَةَ الوَعْيِ
بِتِلْكَ الأَصْوَاتِ المُتَقَاطِعَةِ فِي دَاخِلِي.
هُنَاكَ،
تَعَلَّمْتُ الإِنْصَاتَ لا إِلَى المُعَلِّمِينَ،
بَلْ إِلَى الفَرَاغَاتِ بَيْنَ كَلِمَاتِهِمْ،
إِلَى النَّظَرَاتِ العَابِرَةِ،
إِلَى الكِتْمَانِ الَّذِي يَسْكُنُ فِي زَوَايَا الفَصْلِ.
لَمْ يَخْلُ رُكْنٌ مِنَ المَدْرَسَةِ،
مِنْ إِعَادَةِ تَشْكِيلِ الغَرِيبِ فِي دَاخِلِي،
يَرْسُمُ لَهُ مَلَامِحَ
لا تُشْبِهُ أَحَدًا سِوَايَ.
ثُمَّ جَاءَ البَيْتُ القَدِيمُ.
لَمْ يَكُنْ بَيْتًا فَقَطْ،
بَلْ مَتْحَفًا لِصَوْتِ الغَرِيبِ.
الجُدْرَانُ كَانَتْ تَهْمِسُ،
الأَرْضِيَّاتُ تُصْدِرُ صَرِيرًا
كَأَنَّهَا تَحْفَظُ خُطُوَاتِ مَنْ سَبَقُونَا،
وَالأَبْوَابُ تُفْتَحُ بِبُطْءٍ
كَأَنَّهَا تَتَرَدَّدُ بَيْنَ البَوْحِ وَالكِتْمَانِ.
لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ زَاوِيَةٍ،
إِلَّا وَكَانَتْ مِرآةً لِذَاكِرَةٍ لَمْ أَعِشْهَا كَامِلَةً،
لَكِنَّهَا تَعِيشُنِي بِالكامِلِ.
حِينَ أَجْلِسُ فِي فِنَاءِ البَيْتِ،
كَانَ الغَرِيبُ يَجْلِسُ قُبَالَتِي،
لا يَقُولُ شَيْئًا،
لَكِنْ صَمْتُهُ أَبْلَغُ مِنْ أَيِّ حَدِيثٍ.
هُنَاكَ أَدْرَكْتُ أَنَّ الغَرِيبَ لَيْسَ طَيْفًا،
بَلْ تَارِيخٌ يَنْتَظِرُ الإِصْغَاءَ.
رَبَطَتْنِي بِالبَيْتِ وَالمَدْرَسَةِ
خُيُوطٌ لا تُرَى،
كَأَنَّ كِلَيْهِمَا كَانَا يُحَضِّرَانِي،
لِلِقَاءِ هَذَا الكَائِنِ الدَّاخِلِيِّ.
وَكَأَنَّ المَدْرَسَةَ...
كَانَتْ نِدَاءً أَوَّلِيًّا لِذَلِكَ الحِوَارِ الصَّامِتِ،
لِيُتَمِّمَ البَيْتُ ذَلِكَ النِّدَاءَ،
فَكَانَ امْتِدَادًا مَكَانِيًّا وَعَاطِفِيًّا،
يَرْبِطُ البَرَاءَةَ بِالاكْتِشَافِ،
وَالخَوْفَ بِالفَهْمِ.
كُلٌّ مِنْهُمَا شَكَّلَ مَمَرًّا،
نَحْوَ ذَاتِيَ الأَكْثَرِ صِدْقًا،
وَالأَكْثَرِ غُمُوضًا.
ثُمَّ كَبُرْتُ...
وَاتَّسَعَتِ الذَّاكِرَةُ نَحْوَ أُفُقٍ آخَرَ: البَحْرُ.
صَارَ شَاطِئًا لِلْبَوْحِ، وَمِرآةً لِلصَّمْتِ.
مَا زَالَ البَحْرُ رَفِيقِيَ الأَمِينَ،
يُرَدِّدُ فِي كُلِّ مَوْجَةٍ:
لا تَخَفْ، فَالْحَنِينُ لَيْسَ قَبْرًا،
بَلِ المَوْجُ الَّذِي يَغْسِلُ غُرْبَةَ الرُّوحِ.
سَأَلَتْنِي نَفْسِي:
مَنْ نَكَثَ العَهْدَ؟
أَجَبْتُهَا بِصَوْتٍ ثَقِيلٍ:
الْوَعْدُ لَمْ يُخْلَفْ،
نَحْنُ مَنْ أَغْلَقْنَا النَّوَافِذَ خَوْفًا مِنَ البَصِيرَةِ.
أَحْبَبْنَا ثُمَّ تَنَكَّرْنَا؟
رُبَّمَا...
لَكِنَّ الأَعْظَمَ هُوَ الحُبُّ الَّذِي اعْتَرَفْنَا بِهِ،
ثُمَّ حَوَّلْنَاهُ قَفَصًا يَخْنُقُ أَنْفَاسَهُ.
الخِيَانَةُ لَيْسَتْ فِي النِّسْيَانِ،
بَلْ فِي ادِّعَاءِ أَنَّنَا لَمْ نَشْتَقْ لِذَلِكَ الوَعْدِ
الَّذِي طَالَمَا انْتَظَرْنَاهُ.
قَدَّسْنَا أَشْيَاءَ،
ثُمَّ جَرَّدْنَاهَا مِنْ قَدَاسَتِهَا
حِينَ عَطَّلَتْ رَاحَتَنَا.
هَلْ صَارَتِ اللُّغَةُ أَدَاةَ تَهْدِيدٍ،
لا جِسْرًا لِلْحِوَارِ؟
هَلْ أَصْبَحَ الضَّمِيرُ عِبْئًا
نَسْتَحِي مِنْهُ فِي مَحَافِلِنَا؟
وَالرُّوحُ... آهِ، الرُّوحُ!
حِينَ سَقَطَتْ بَيْنَ أَوْرَاقِنَا الرَّسْمِيَّةِ،
اخْتَرْنَا أَنْ نُحَدِّقَ فِي السَّمَاءِ
كَأَنَّهَا سَقْفُ مُسْتَوْدَعٍ
لا نَافِذَةٌ عَلَى الكَوْنِ السَّرْمَدِيِّ.
فِي لَحْظَةِ تَمَرُّدٍ،
حَطَّمْتُ المِرآةَ.
لَمْ أَعُدْ أَبْحَثُ عَنْ وَجْهِي،
بَلْ عَنْ صَوْتٍ فُقِدَ مُنْذُ دُهُورٍ.
وَمِنْ بَيْنِ فُتَاتِ الزُّجَاجِ،
صَعِدَ صَدًى بَعِيدٌ...
ذَاكَ الصَّوْتُ الَّذِي طَالَمَا أَنْكَرْتُهُ،
لَكِنَّهُ الْآنَ، أَصْدَقُ،
أَكْثَرُ انْكِسَارًا،
وَأَعْمَقُ حَيَاةً.
ضَحِكَ الغَرِيبُ فِي دَاخِلِي سَاخِرًا:
تُحَاوِلُ إِحْيَاءَ مَا دَفَنْتَهُ بِنَفْسِكَ!
أَقُولُ لَهُ بِتَحَدٍّ:
بَلْ أُصْغِي لِصَرْخَةِ الوِلادَةِ فِي كُلِّ مَوْتَةٍ.
الإِنْسَانُ لَيْسَ جُثْمَانًا بِلَا رَنِينٍ،
بَلْ ظِلٌّ يَلْهَثُ وَرَاءَ ضَوْئِهِ الشَّارِدِ،
حَتَّى لَوْ كَانَ هَذَا الضَّوْءُ
وَرَاءَ بَابٍ مُوْصَدٍ بِإِحْكَامٍ.
أَيَّتُهَا الَّتِي جَعَلْتِ السُّؤَالَ مِرآةً
تَعْكِسُ أَعْمَاقَنَا،
هَا أَنَا أَرْسُمُ كَلِمَاتِي
مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الصَّمْتِ،
فَقَدْ كَانَ بَدْءُ الحِوَارِ هَمْسًا بِلَا كَلِمَاتٍ،
وَهَذَا الكِتَابُ يَحْمِلُ أَجْوِبَةً
عَنْ أَسْئِلَةٍ لَمْ تُطْرَحْ بَعْدُ.
رُبَّمَا نَلْتَقِي يَوْمًا،
حِينَ تَتَعَلَّمُ الأَصْوَاتُ مِيلادَهَا مِنْ جَدِيدٍ،
وَحِينَ يُقَابِلُ غَرِيبُكِ غَرِيبِي،
فَيَنْصَهِرَانِ نِدَاءً وَاحِدًا
يَعْلُو فِي الفَضَاءِ...
أَوْ نَكْتَشِفُ أَنَّنَا كُنَّا دَائِمًا
صَوْتًا وَاحِدًا
يَبْحَثُ عَنْ مِرآةٍ.
وَحِينَ آثَرَ القَلْبُ الصَّمْتَ،
انْكَشَفَتِ الأَصْوَاتُ فِي أَعْمَاقِي.
لا مِنْ حَوْلِي، بَلْ مِنْ كُهُوفٍ دَاخِلِيَّةٍ.
كَأَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ مَبْتُورٍ
خَلَّفَ أَثَرًا أَشْبَهَ بِشَرْخٍ زُجَاجِيٍّ،
وَكُلَّ صَمْتٍ حَمَلَ سُؤَالًا مُؤَجَّلًا.
هُنَاكَ، فِي رُكْنٍ مَنْسِيٍّ مِنَ الذِّكْرَى،
الْتَقَيْتُ بِالغَرِيبِ.
لا أَعْرِفُهُ.
مَلَامِحُهُ تَوْأَمٌ لِي حِينَ يُثْقِلُنِي الإِعْيَاءُ،
وَصَوْتُهُ صَدَى كِذْبَاتِي حِينَ أُخَادِعُ رُوحِي.
سَأَلَنِي:
لِمَاذَا تَكْتُبُ إِنْ كُنْتَ لا تَنْشُرُ؟
أَجَبْتُهُ:
أَرْهَبُ أَنْ يَكْتَشِفَ أَحَدٌ الحَقِيقَةَ المَخْبُوءَةَ بَيْنَ السُّطُورِ.
ابْتَسَمَ:
بَلْ لأَنَّكَ تَرْجُو أَنْ يَقْرَأَهَا مَنْ يَحْمِلُ جُرْحَكَ ذَاتَهُ،
وَيَفْهَمُ دُونَ طَلَبِ غُفْرَانٍ.
ظَنَنْتُنِي أَعْرِفُ نَفْسِي،
حَتَّى بَدَأْتُ أَسْتَجْوِبُهَا كَمَا يَفْعَلُ الغَرِيبُ.
كُلُّ سُؤَالٍ كَانَ كَوَضْعِ إِصْبَعِي عَلَى نَبْضِ الأَلَمِ،
لا لأَجْرَحَ،
بَلْ لأَتَأَكَّدَ أَنَّ الدَّمَّ مَا زَالَ يَسْرِي.
كُنْتُ أُجِيبُهُ أَحْيَانًا،
وَأَحْيَانًا كَانَ صَمْتِي هُوَ الجَوَابُ،
وَأَحْيَانًا أُخْرَى انْتَظَرْتُ أَنْ يَنْطِقَ هُوَ نِيَابَةً عَنِّي،
فَفَعَلَ،
كَأَنَّهُ يَعْرِفُ مَسَارَ أَفْكَارِي قَبْلَ أَنْ تُولَدَ.
ذَاتَ مَرَّةٍ،
سَأَلَنِي عَنْ بَيْتٍ قَدِيمٍ يَسْكُنُ ذَاكِرَتِي.
قُلْتُ:
بَيْتٌ كَانَ الضَّوْءُ يَنَامُ عَلَى جُدْرَانِهِ،
وَتَبْكِي نَوَافِذُهُ عِنْدَ المَطَرِ،
لِأَنَّ أَحَدًا لا يُشْرِعُهَا.
رَدَّ:
وَمَا زَالَ فِي قَلْبِكَ مَنْ يَنَامُ عَلَى عَتَبَةِ الانْتِظَارِ.
وَبَيْنَمَا قَطَرَاتُ المَطَرِ تَعْزِفُ عَلَى زُجَاجِ المَدْرَسَةِ البَاهِتَةِ،
كُنْتُ أَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ،
كَأَنَّنِي أُفَتِّشُ عَنْ طِفْلَةٍ نَسِيتُ تَوْدِيعَهَا.
فِي لَحَظَاتِ تِيهِي،
وَأَسْئِلَتِي المُتَكَرِّرَةِ عَنِ الغَرِيبِ،
كَانَتْ هَذِهِ المَلاذَاتُ هِيَ مِرآةَ رُوحِي.
وَكَانَ البُخُورُ يَتَصَاعَدُ قُرْبَ المِحْرَابِ،
حَيْثُ كُنْتُ أَرْكَعُ لا لأَسْأَلَ شَيْئًا،
بَلْ لأَتَأَكَّدَ أَنِّي مَا زِلْتُ أَعْرِفُ كَيْفَ أَنْحَنِي لِلَّهِ.
ثُمَّ حَلَّ صَمْتٌ طَوِيلٌ.
نَظَرْتُ إِلَى المِرآةِ.
لَمْ أَرَ وَجْهِي.
رَأَيْتُ الغَرِيبَ...
قُلْتُ: أَكُنْتَ أَنَا؟
قَالَ: رُبَّمَا.
أَوْ كُنْتُ الصَّوْتَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ فِي مَخْبَأٍ سِرِّيٍّ.
قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ أُحَطِّمَ المِرآةَ.
قَالَ: بَلْ حَطِّمْهَا...
فَالصَّوْتُ لا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الرُّفَاتِ.
فَعَلْتُ.
وَتَنَاثَرَ حَوْلِي فُتَاتٌ زُجَاجِيٌّ
يُشْبِهُنِي وَيَخُونُنِي،
وَيَقُولُ مَا لَمْ أَجْرُؤْ عَلَى النُّطْقِ.
وَرَأَيْتُ الرُّفَاتَ تَرْقُصُ عَلَى الأَرْضِ
كَحُرُوفٍ مِنْ لُغَةٍ بَائِدَةٍ،
تُعِيدُ تَرْكِيبَ مَعْنَاهَا كُلَّمَا حَاوَلْتُ قِرَاءَتَهَا.
وَمِنْ بَيْنِ البَقَايَا،
أَطَلَّ صَوْتٌ كَانَ يُعَرِّفُنِي، حَدَّ التَّمَاهِي،
فَكَانَ يَحْمِلُ فِي رَنِينِهِ...
أَصْدَاءَ كُلِّ الَّذِينَ مَرُّوا بِي.
حِينَئِذٍ أَدْرَكْتُ
أَنَّ كُلَّ كِتَابَاتِي كَانَتْ حِوَارًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا،
مَعَ وَجْهٍ لَمْ أَعْرِفْهُ تَمَامًا،
وَمَعَ ظِلٍّ يُشْبِهُنِي حِينَ أَنْسَى.
وَفِي اللَّحْظَةِ الَّتِي ظَنَنْتُ الحَدِيثَ انْتَهَى،
سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ...
صَوْتًا يَعْرِفُنِي أَكْثَرَ مِنِّي،
هَمَسَ لِي:
الوَعْدُ وَالخِيَانَةُ يَتَقَاسَمَانِ سَرِيرًا وَاحِدًا:
أَحَدُهُمَا يَنَامُ عَلَى الجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنَ القَلْبِ،
وَالآخَرُ يَسْرِقُ الغِطَاءَ لَيْلًا.
رُبَّمَا كَانَ هُوَ "الوَعدَ"،
وَرُبَّمَا كَانَتْ هِيَ "الخَائِنَةَ"،
وَرُبَّمَا هُمَا مَعًا،
يَضْحَكَانِ كَوَجْهَيْنِ لِعُمْلَةٍ،
مِفْتَاحُهَا لَيْسَ فِي أَكُفِّ البَائِعِينَ.
أَخِيرًا،
الأَصْوَاتُ الَّتِي صَارَتْ مَرَايَا،
بَدَأَتْ تَتَحَدَّثُ كَأَنَّهَا تَغْسِلُ أَسْمَاءَهَا فِي نَهْرِ الأَسْئِلَةِ.
الغَرِيبُ كَانَ ضَبَابًا،
وَالضَّبَابُ كَانَ غَرِيبًا.
وَالحِوَارُ بَيْنَهُمَا لَمْ يُخْلَقْ لِيَفْهَمَهُ العَقْلُ،
بَلْ لِتَحْيَاهُ الرُّوحُ.
أَعْظَمُ الحِوَارَاتِ...
هِيَ الَّتِي لا تَمُوتُ،
بَلْ تَتْرُكُ البَابَ مُشْرَعًاــ
لِأَصْوَاتٍ...
لَمْ نَكُنْ نَدْرِي أَنَّا نَحْمِلُهَا فِي جُيُوبِنَا السِّرِّيَّةِ.
جهاد غريب
يوليو 2025