عرّافةُ المُخَيَّم. - منتديات أبعاد أدبية
 
معرفات التواصل
آخر المشاركات
تصادم مذنب بشراع جاك (مقطع مسلسل من قنابل الثقوب السوداء) (الكاتـب : إبراهيم امين مؤمن - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 1 - )           »          الليلة الأخيرة في القرية (قصة قصيرة من الخيال ) (الكاتـب : ساره عبدالمنعم - آخر مشاركة : سيرين - مشاركات : 1 - )           »          !!!!! .....( نـــــذرولـــــوبــــيــا ) ..... !!!!! (الكاتـب : خالد العلي - مشاركات : 199 - )           »          وللحديث بقيه (الكاتـب : ساره عبدالمنعم - آخر مشاركة : نايف الروقي - مشاركات : 103 - )           »          عرّافةُ المُخَيَّم. (الكاتـب : آية الرفاعي - مشاركات : 0 - )           »          مأوى الأحلام. (الكاتـب : آية الرفاعي - مشاركات : 129 - )           »          اوراق مبعثرة!!! (الكاتـب : محمد علي الثوعي - مشاركات : 635 - )           »          على الرف ... ؟؟ (الكاتـب : سيرين - آخر مشاركة : نايف الروقي - مشاركات : 1662 - )           »          مُتنفس .. شِعري ! (الكاتـب : سعيد الموسى - آخر مشاركة : نايف الروقي - مشاركات : 829 - )           »          [ فَضْفَضَة ] (الكاتـب : قايـد الحربي - آخر مشاركة : نايف الروقي - مشاركات : 75441 - )


العودة   منتديات أبعاد أدبية > المنتديات الأدبية > أبعاد النثر الأدبي > أبعاد القصة والرواية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم يوم أمس, 11:51 PM   #1
آية الرفاعي
( كاتبة )

الصورة الرمزية آية الرفاعي

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 17828

آية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعةآية الرفاعي لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي عرّافةُ المُخَيَّم.


عرّافةُ المُخَيَّم.
قالَت لي العرّافةُ الدّهريّةُ:
(تُنبِئُنِي الرياحُ عَنكِ في هُبوبِها)
تقول:
(تَعويذَةُ الشرِّ المَحيقِ هَهُنا)
(بِبيتِكِ المُهَلهَلِ المشطُور)
(معقُودَةُ تظلُّ لا تَزول)
(حتَى يجِيءَ الفارس المكرّس المنذور).
فدوى طوقان.
*.
.
تَفوحُ رائِحةُ المَلَلِ من جُثّةِ الوَقتِ, لِصَبِيٍّ في العاشِرَةِ مِن العُمرِ, لا يعرِفُ كيفَ يُمضِي نَهاراً آخراً سَقَطَ للتَوّ على عَينَيهِ, هَارِباً مِن سُلطَةِ اللّيلِ..فَالمَدرَسةُ لمْ تُفتَحْ بَعدُ , إذ إنّ المَطرُ السَخِيُّ أغرَقَ جزءاً كبيراً مِنها, والرّبيعُ لمْ يَلتَفِتُ بعدُ نحوَ ذُنوبِ الشتاء!.
***
أَتَسَلَّلُ بِخِفّةٍ نحوَ المرآةِ الصَغيرَةِ التي تَضَعُها أختي الكبيرة في ركنِها الشخصيّ, أنظرُ إلى شعري المُصَفَفِّ بعنايةٍ, فرَحٌ لحظيٌّ يُباغِتُني,أزيحُ بعضَ الترابِ العالِقِ على قَميِصي حتى لا أقعَ مُجَدَدّاً في شِباكِ غَضَبِها,إذْ أنّني الآن شُغلُها الوَحيدْ, بعدَ أن أجبَرَتها هِجرَتُنا القسرِيّةُ على تَركِ كُتبها, لمْ تَنتَظِرها الجامِعةُ هُناك, ولمْ تحظَ بِفُرصَةٍ هُنا!..
حينَ أعودُ إلى المَنزِل مساءاً مُشَعَثّ الشَعرِ, وملابِسي مُتسخةٌ بعدَ نهارٍ طويلٍ في مُحاوَلَةِ كسبِ القليلِ مِن المالِ في مُساعَدَة بعضِ التُجّار, أو بعدَ مباراةِ كرةٍ قدم أكون فيها بالعادةِ احتياطيّ, أو بعدَ نهارٍ أمضيتُهُ في اللعبِ بالأحجارِ وتبادُلِ آخر الأحداثِ في المخيّم وفي أرضنا الأمّ مع أقراني.. تَقرِصُ خدّي وتوّبخني وَ هيَ تُزيحُ بيَدِها رائحةَ نارٍ غليظة تَعبِقُ في الجوّ, مُتمنيّةً خيمةً بِنوافِذ, تُتيحُ لها بعضَ الخُصوصيّة :
- لَو أنّني استطعتُ حملَ القليلِ مِن كُتُبي ,لكنتُ الآن غارِقةً بينَ أسطُرِها بدلَ أن أغرَقَ في قذارتك, لكنْ لا بأس فالأحلامُ مطاطيّة, تقعُ كثيراً لكنّها لا تنكسر!
ولا يعلم أحدٌ عددَ الكتب التي امتلَكتها في رفوفٍ تبدو كأنها صاعدة نحو السماءِ لعلّوها,ولا طبيعةَ الأحلام التي تمتلكها, ولا يعلمُ أحد كمّ حبِّها لي, سواي..
***
فِي هَذِه البُقعةِ المرصوصَةِ بِالخِيام البالِيَةِ, والأجسادِ البَشريّة المُنهَكَةِ ,على مساحةٍ لا تًعادِلُ كفّ طفلٍ كونيّ ,لمْ يكنْ بِوسعي إلا أنْ أسيرَ دونَ وجهةٍ في هذه المتَاهة العمياء,أن أنظرَ إلى الأشياء من حولي كأنّها دروسٌ تُلَقِنُنّي إيّاها مدرسة الحياة, أن أستَمِعُ إلى الأحاديثِ المُتَطايِرةِ من أفواهِ النّاس والتي يَغلُبُ عليها طابِعُ الموتِ والجوعِ والتّذمرِ,وأحاول إعادَةَ تعريف الأشياء في عقلي, من وجهة نظر جديدة,أنْ أحاول نسج ثوب ثقافتي من خيوطٍ مُتعدّدةِ الخاماتِ بعضهُا حريريٌّ, ومُعظمها خشنٌ وباهتٌ, لكنّه يَستَطيعُ احتواء كياني أبدَ الدهرّ!..
أسيرُ في الأزقة الضيقة جداً بين الخيام ,عدسةُ فضولي تعملُ بتلقائِيّةٍ, تلتقط مشاهد جديدة وأخرى اعتدت عليها..اقترب من شجرةِ الليمونِ الوحيدةِ المزروعَةِ في عُلبةٍ صَدِئَةٍ يَستَظّلُ بِها *عجوزٌ,دُموعُه حفرتْ أخاديدَ ثابتة في وَجههِ, كانَ بعضُ الأولادِ ينعته بِمجنونِ المخيّم, لكنني كنتُ أراه عاقلاً,لمْ يقبَل أن ينامَ في جوفِ خيمةٍ, ولا يدري أحدُنا كيفَ حصلَ على شجرتِه الوحيدةِ التي بدَأتْ أوراقُها بِالاصفِرار.. أُلقي عليه تحيةَ الصباحِ, فيبتسم لي وَ يُتمتِمُ بالرِضا والتمنيّ.
أتابِعُ خطواتي الواسعة والمُتأنيّة في آن, أشتمّ رائحة الطعام المُنبَعِثةِ من فوقُ مواقِد النارِ البِدائِيَةِ, لا أُمَيِّزُ منها سوى رائحةِ الشاي بِالنَعناعِ التي تفوح من وَسط حلقات الرجالِ,التي ما إن تنفَضُّ في رُكنٍ حتى تَنعَقِدَ في آخرٍ,تُرافِقُ حِواراتهم شاسِعةُ المدى ثَوراتِهم اللّفظيّة, وتَذمرُّهم المُحتَقن ضدّ الأديانِ, والحُكوماتِ, وَ الأشخاصِ, وَ الفراغِ الذي لا يملَؤهُ عملٌ, ولا أملٌ!..
لا أحدَ يلتَفِتُ إليّ, لا أحدَ يَمتَلِكُ نَفساً طويلاً لِأّنْ يَقفَ عثرَةً في طريقٍ صارَ مُباحاً بِالكامِلِ هُنا, بعدَ أنْ انتُهِكَ الإنسانُ فِي الطريقِ إلى هُنا!..
***
سائرٌ كطائرٍ أعرج, بقدمٍ واحدةٍ وجناحٍ واحد, بنصفِ حلمٍ ونصفِ ابتسامةِ, لا شيءَ في حياتي كامل!.. أرى على مرمى بصري, الخيمةَ السوداء, الخيمة المحرمة كما اعتاد البعض أن يسميها, الخيمة التي أثارت ساكنتها حفيظة أهل المخيم, وكادَتْ أن تنضمّ إلى القائمةِ القصيرةِ للأمور التي قد أجمعَ عليها اللاجئون,إذْ إنَّ النِسوَةَ في حلقاتِهنَّ الصباحيّةَ, يَنْعَتنَها بالساحرَةِ , وَ يُكرّرن إصرارَهنَّ على إسقاطِ جنسيّتها, في وقتٍ فقدنَ فيهِ كل ما يمتَلِكنْ إلاّ المُعاناة..وَ يذهبُ بعضُهنّ إلى واجهةِ الخيالِ فَيَلتَقِطنَ قصّةً تقولُ أنّها هُنا قبلَ إقامةِ المخيّم ذاتِه..أمّا الكثرةُ فَيُجمِعنَ على أنّها امرأةُ سوءٍ بغيّة , وَ يحذّرنَ أطفالَهنُ مِن الاقتِرابِ منها في محاولةٍ صريحةٍ لإبعادِ أزواجهنّ وأولادهنّ عنها!..
أمّا المُراهقونُ من الشَبّانِ, فاعتادوا أن يَتهامَسوا حول جمالِها الأخّاذِ وَ سِحرِها الذي لا يُقاوَمْ,وَ يحيكونَ القِصصَ عن قُدرَتِها على تَحويلِهمْ إلى فُحول!..
القلّةُ التي لا تَنبَسُ بِبنت شفّةٍ حولها, همْ أولَئكَ الذينَ كسروا هذا القيْدّ الاجتماعيّ المُستَحدَثْ, وَ عبروا بابَ خيمَتِها, حامِلينَ بعضَ الأوراقِ النّقديّةِ التي لا تزالُ بينَ أيديهم, باحِثينَ عنْ صورةٍ لِمُستَقبَلِهم في مرآة القدرِ التي لَدَيها, إذ أنّهم يَخرُجونَ مِنْ هُناكَ مَعقودةٌ ألسِنَتُهم, وَ يَسيلُ زبدُ الحزنِ مِن بُحورِ عيونِهم,لا أحدَ يُدرِكُ ما حصلَ لهم في الداخلِ, أو عنْ أيّ جحيمٍ حدّثتهُمْ, ولا احدَ يَجرُؤ على سُؤالِهم ,يَفقدون في البِدءِ شيئاً مِن احترامِ النّاسِ , ثمّ يعودونَ تدريجيّا إلى الانخراطِ معهُم , فَوَجهُ اليأسِ واحدٌ!..
حينَ اقتربتُ مِن الخيمةِ, وَ لَمْ يَعُدْ يفصِلُني عَنها إلّا بِضعَ خطواتٍ, وجيب خالية من النُقودِ, وَ مستَقبلٌ..انتفضتْ في داخِلي عنقاءٌ هزّتْ ذاكِرَتي, وَ أضاءَتْ صورةٌ والدي التي حاولتُ غمسَ ألوانِها في وحلِ موتِه الذي يصرُّ الجميعُ على حقيقَتِه,وَ تقولُ أختي أنّه محققٌ مستدلّةً بوَجهِ أميّ الذي خُطِفَ لونُه إلى الأبدِ,وَ لِسانُها المَعقودُ زاعمَةً أنّها رأت ملاكَ الموتِ وَ هو يسحبُ روحَه!..
عبرتُ حدودَ الدُنيا, إلى مَهرجانِ الحزنِ, إلى الخيمةُ الصغيرةُ التي تَتّسعُ مجرّة ..لو أنّ عاقلاً رآها لوَصفها بِالخُردَةِ, لكنّني رأيتُ فيها تناقضَ الفوضى الكونيّة كلّه!
رائِحةُ ليمونٍ محترقٍ,مِئاتُ التُحفِ الصغيرةِ المُعلّقةِ على القُماشِ المُتَهدّلِ, رُزمةُ الكُتبِ على الأرضِ, الأضواء الخافِتةُ الملّونةُ, طاولةٌ خشبيةٌ عتيقةٌ عليها أوراقُ لعبٍ, و كرةٌ زجاجيةٌ, وَ إناءٌ صغير,صوتُ موسيقى خافتٌ وَخشنٌ ينبَعثُ من فونوغراف قديم..أمّا النغمُ الحقيقيُّ فكانَ ينبعثُ منْ عينيّ الشابّةِ التي تَجلِسُ وراء الطاولةِ!..
***
شابّةٌ في ثلاثينيّاتِ عُمرِها, شَعرُها طويلٌ ليليٌّ ,تزينُهُ بعضُ خصلٍ ملوّنةٍ, أقراطًها دائريّةٌ كبيرةٌ تلامِسُ طرفَ كتِفها العاري,ترتدي قميصاً فضفاضاً أبيضَ اللونِ, وقلادة عُنقٍ موغِلةٌ في صدرِها, وجهُها طفوليٌّ مخمليُّ بضٌّ ,وَ عيناها لوزتان خضراوان فيهما بريقُ فرحٍ رغمَ التعبِ الذي خزّنَتهُ الأيام فيهما, أنامِلها طويلةٌ تنتَهي بأظافر مقلمّةٌ جيداً, لمْ تكنْ على هيئةِ الساحراتِ أو العرّافاتِ في أفلامِ الرسومِ المتحرّكة..كانتْ تشبهُ ملاكاً هادئاً لمْ يمتلك أجنِحَتَه بعد!..
رعشةٌ خفيفةٌ جاسَتْ في رأسيْ ,وخطوةٌ صغيرةٌ إلى الوَراءِ ,كادَتا تُخرِجانني إلى وَهمِ المُخيّمِ,لكنّ ابتسامةً صغيرةً نَدَتْ عَن ثغرِها فتَحَتْ أمامي باباً جديداً لِلامتِنان, ودونَ وعيٍ مددتُ يدي إلى جيبي, أخرجت الحجرَ الصغيرَ الذي لمْ أحمل سواهُ حينْ رحلنا عنْ مَنزِلنا, وكان اسمي محفوراً عليهِ, أولُ هديّة حقيقيّة تَلقيتُها في حياتي مِنْ صديقٍ لم أعدْ أعلمُ عنهُ شيئاً, لا الطريق التي سَلَكها , ولا الأرضُ التي حطّ عليها..كانَ حجراً في ظاهِرهِ, وَوطنا كاملاً في جوهَرِه!..
مَدَدتُهُ نحوها, التَقَطَتهُ بِلهفةٍ, قلّبتهُ بينَ يديها, أغمضتْ عينيها, وضمّته بقَبضَتِها الصغيرةِ, وَ دون أن تنظُرَ نحوي, أشارتْ إليّ بِالجلوس مقابلها!.
ترّبعتُ على الرَّمل, شعرتُ بالصمتِ يغزو أُذُنايَ, وَ يُحَجّرُ كل الأصواتِ فيهما, رأيتُ شفاهَها تتحرّكُ بِبطءٍ كأنّها تَلفِظْ شيئاً, لكنّني لم أدركه, نبضاتُ قلبي تزايَدتْ وَ أنا أعيدُ أرشيفَ صورِ والديْ في ذاكرتي منذُ بدءِ طفولَتي,هيئَتُهُ العربيّةُ المُتقنةُ, جسدٌ ممشوقٌ وَ قوامٌ صلبٌ لا يَتوائَمُ مع عملهِ كمدّرسٍ, شعرُهُ الذي وخطَهُ الشيبُ, وذقنُهُ الحليقةٌ دوما, النقودُ التي كانَ يضَعُها في يدي صبيحةَ العيدِ, الألعابُ التي كان يُخرِجُها من وراءِ ظهرِهِ وَ يُفاجِئُني بِها, مَسحةُ الحزنِ على وجهِه حين ماتَ الجنينُ الثالثُ في بطنِ أميّ المُرهقة, حبّاتُ الشوكولاتةِ التي كانَ يُخبِؤها من أجلي تحتَ الوسادةِ, والحنان اللامشروط..ثمّ وجهُ الخوفِ الذّي غزاهُ في أولِ الحربْ, وامتناعِهِ عن الخروجِ من المنزلِ لِحمايَتنا, ثمّ وجه الحزن الذي ارتاده وهو يضمني وأختي إلى صَدرِه, بعد أن وقعت القذيفة الأولى التي أدخلتنا رغما عنا في حرب لم نكن طرفا فيها, ثم رائحةُ عرَقهِ التي أشمّها عن قُربٍ و رَأسي مُخَبَأٌ في صَدرِه ونحن نعبرُ بحراً لا يعرفُ الرحمة, إلى أرضٍ ربما تلفظنا, باحثين عن وجه واحد للحياة, بين ركام الموت هذا, وأخيراً وجهُهُ المخضّبُ بِالغَضَبِ و رَجفَةُ البرد حينَ انقَلَبْ قاربُ النّجاةِ لِيُفَرّقَنا..تَشَبَثتُ بأمّي حِينَها, فقدتُ الوعي, لم ادري ما الذي حصَلَ بالتحديد ولم نتحدث عنه حين استيقظت على يابسة مزروعة بالرّكام , وسماؤها تتفَّجر!..
كنّا في أرض الوطن مرَة أُخرى, لكننا فَقدنا أبي, لم يستطع أحدٌ أن يُنقذَه, ولم يعرف أحدٌ إذا ما طَفَا جُثّةٌ على شاطئ غريبٍ و موحِش, أمْ أنّهُ استطاع السباحةَ نحوَ الحياةِ مُجدَداً..تمسّكتُ أنا بِرُؤيَةِ الأمل, و أصرّتْ أميّ على حقيقةِ موتِه, فَمن سَينجو في هذا الكمّ الهائِل مِن الموت؟!..
خرجتُ من هذه اللحظة التي مرّت كأنها بضع سنين, والشابة تُمسك بيدي و تضعها في الإناء الصغير,و كنتُ أشعُرُ بمَلمَسِ التُراب بين أصابِعي, وبِخفقانٍ روحيّ غريب!
كانت نَظرَةُ الشفقَةِ في عينيها تَتقَاطَعُ مع نَظرَةِ الخوفِ في عينَيّ فتوَلِّدُ حرارة الحياةِ مُجدداً..قالت بصوتٍ خَفيضٍ, ومُوغِلٍ في الوِحدة:
- لا تَخَفْ, ثمّة حبل صبرٍ يمتدُّ من قلبِكَ إلى حُدودِ الشمسِ, سَيَحمِلُ إلى حياتِكَ النّور أينما ذَهَبتْ.
فَتَعَجَلتُ مُتلَهِفاً:
- أُريدُ أنْ أعرِفَ مَصِيرَ والدي؟
*
كانت يَدي تستقِرُ فَوقَ طَبَقَةٍ من الطينِ المَيتِ, يَدها فوقَ يَدي , مُغمِضَة عَينَيها, أتأَملُها بِلهفَةٍ كَأنَّها قِطعةٌ مِن الخَيالِ , وهي تُصدِرُ صَوتَاً خافِتاً مِن فَمِها كَأنّهُ صفير, بَدأت حرارةُ يَدِها بالارتِفاعِ, ورأيتُ على جَبينِها بُرعُم قطرةٍ مِن عَرَق, أحسَستُ بِقلبِهَا يَنبِضُ بِشِدّةٍ, حتى خُيّلَ إلَيَّ أننِي أسمَعُ خفقاتِه!..
كانت عيناي مفتوحتان بِالكامِل , حينَ سحبَت يَدها وفتَحَت عَينَيها و شهقَةُ خَوفٍ صَدَرَتْ من كَهفِ صَدرِها, تراجعتْ إلى الوَرَاءِ , صارَت ملامِحهَا مُخيفَةٌ إلى درجةِ أننَي أنا الذي حصّنتُ نفسي من الخوفِ ,جَزِعتْ!..
لمْ تَقُلْ شيئاً, و رويداً رويداً عادَت ملامِحها إلى الجمالِ عينِه,واكتَست شفتاها المُكتَنِزتانِ بابتسامةٍ صغيرة, اقترَبتْ منّي, واحتَضَنَتني بِصَمتْ, هامِسةً في أذني:
- لا تنتظِر شيئاً من البحر..إنّهُ بشعٌ و قاسٍ, تمسّك بالترابِ ما استطعتْ, ولا تَلتَفتْ نحو الماضي!..
اعتَدلتْ , كانتْ أكثَرُ طولاً مما ظَنَنتْ, وأكثرُ قرباً مما تمَنيتُ, استَطعتُ أنْ أجِدَ فيها حناناً فقدتُهُ حينَ فقدتُ أبي, قبّلتُ يَدها بِخشوعٍ, واستدرتُ خارجاً!..
***
كانت نارٌ ما تسري في عروقِي في طريقِ عودَتِي إلى الخيمَةِ , دخلتُ طفلاً إلى هُناكَ و خرجتُ رجلاً, لم أكتَرث للعيونِ التي حَدِجَتني بِقسوةٍ, جَلَستُ على الأرض الموحلَةِ, ضَممتُ الطينَ إلى قلبي, لم أكترِثْ لِنظافَةِ ملابسي, ليسَ بعد الآن!
*
2014
تهجمُ حربٌ،
تنهشُ بلادٌ،
ينتهي صراعٌ
ويتكرّرُ التاريخُ في الإنسان!

 

التوقيع

لا أكتُبُ لِأفتَحَ لأحَدِكُم باباً،بَلْ لِأُضاعِفَ مِنْ حَولِكُم الأبواب!*

آية الرفاعي غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:03 PM

الآراء المنشورة في هذا المنتدى لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.