ملامح الشخصية الفنية في قصيدة الأمير محمد بن أحمد السديري / قراءة نفسية
يقول من عـدى علـى راس عالـي
رجـم طويـل يدهلـه كـل قرنـاس
في راس مرجـوم عسيـر المنالـي
تلعب به الأرياح مـع كـل نسنـاس
في مهمهٍ قفـرٍ مـن النـاس خالـي
يشتاق له من حس بالقلـب هوجـاس
قعـدت فـي راسـه وحيـدٍ لحالـي
براس الطويل ملابقـه تقـل حـراس
متذكـرٍ فـي مرقبـي وش غدالـي
وصفقت بالكفين يـاسٍ علـى يـاس
أخـذت أعـد أيامـهـا والليـالـي
نيًا تقلّـب مـا عرفنـا لهـا قيـاس
كم فرّقت مـا بيـن غالـي وغالـي
لو شفت منها ربح ترجـع للإفـلاس
ياما هفـا بـه مـن رجـالٍ مدالـي
ما كنّهم ركبوا على قـب الأطعـاس
ولا قلّطوهـن للكمـيـن المـوالـي
ولا صار فوق ظهورهن قطف الأنفاس
ولا ردّدوا صـمّ الرمـك للتـوالـي
كلٍّ يبي مـن زايـد الفعـل نومـاس
من بينهـم سمـر القنـا والسلالـي
مثل البـروق برايـحٍ ليلـه أدمـاس
يقطعك دنيـا مـا لهـا أول وتالـي
لو ضحكت للغبن تقـرع بالأجـراس
المستريح اللـي مـن العقـل خالـي
ما هو بلجـات الهواجيـس غطـاس
ماهـوب مثلـي مشكلاتـه جلالـي
أزريت أسجلهـن بحبـر وقرطـاس
حملـي ثقيـل وشايلـة باحتمـالـي
واصبر على مر الليالـي والاتعـاس
وأرسي كما ترسـي رواس الجبالـي
ولا يشتكي ضلـعٍ عليـه القـدم داس
يا بجاد شـب النـار وادن الدلالـي
واحمس لنا يا بجاد ما يقعـد الـراس
ودقـه بنجـرٍ يـا ظريـف العيالـي
يجذب لنا ربعٍ علـى أكـوار جـلاس
وزله إلـى منّـه رقـد كـل سالـي
وخله يفـوح وقنّـن الهيـل بقيـاس
وصبـه ومـدّه يـا كريـم السبالـي
يبعد همومي يـوم اشمـه بالانفـاس
فنجـال يغـدي مـا تصـور ببالـي
وروابعٍ تضرب بها أخماس وأسـداس
لا خـاب ظنـي بالرفيـق الموالـي
مالي مشاريـهٍ علـى نايـد النـاس
لعـل قصـرٍ مـا يجيلـه ظـلالـي
ينهـد مـن عـال مبانيـه للسـاس
لا صار مـا هـو مدهـلٍ للرجالـي
وملجا لمن هو يشكيَ الضيم والبـاس
بحسناك يا منشـي حقـوق الخيالـي
يا خالق أجناسٍ ويـا مغنـي أجنـاس
تجعـل مقـره دارسٍ العهـد بالـي
صحصاح دوٍّ دارسٍ ما بـه أونـاس
البـوم فـي تالـي هدامـه يـلالـي
جزاك يا قصر الخنا وكـر الأدنـاس
متـى تربـع دارنــا والمغـالـي
وتخضر فياضٍ عقب ما هيب يبـاس
نشـوف فيهـا الديدحـان متـوالـي
مثل الرعاف بخصر مدقوق الالعـاس
وينثر على البيـدا سـوات الزوالـي
يشرق حماره شرقة الصبـغ بالكـاس
وتكبـر دفـوف معبّسـات الشمالـي
ويبني عليهن الشحم مثـل الأطعـاس
في هذا النص الذي أمامنا تصوير للواقع , وهو تصوير مزدوج لواقع الشاعر , بين ما هو كائن وما هو مأمول , وهذا التصوير نابع من روح الشاعر التي لوّنت له الحياة وفق انعكاسات ذلك الواقع على نفسيته , فهو حينما يغضب تكون الصورة أمامه سوداوية قاتمة , بينما حينما يتأمل ويحلم بتحقيق واقع جديد تكون الصورة أمامه وردية حالمة
هذا ما يمكن أن نقوله عن النص باختصار , وهذا الرأي رأي مختزل وعام ينطبق على أي شاعر آخر , سواء مر بظروف الشاعر أو لم يمر , غير أننا سنعمل على تفكيك هذا النص من أجل عزل أجزائه المتعددة , ومن ثم محاولة الربط أو ايجاد الرابط فيما بينها معتمدين على التحليل النفسي للقصيدة للوصول إلى فهم أبعاد النص الفنية
مشهد الاستهلال
لم يأتِ الشاعر الأمير محمد بن أحمد السديري بأمر جديد في مسألة بدء القصيدة , حيث قال : " يقول من عدّى على راس عالي " وهذا الأسلوب أسلوب معروف , ولعل بني هلال أول من ابتكروا هذه الاستفتاحيات في الشعر النبطي , وقد سار الشاعر حاله حال غيره من شعراء النبط وفق هذا الاستعمال , وهذا الفعل القولي يعتبر المفتاح الأول لفهم النص , باعتبار أن النص ذاتي بالدرجة الأولى , وذلك من خلال توارد الصيغ التعبيرية الدالة عليه " يقول – قعدت – متذكر – صفقت - أخذت – ما هو بمثلي – أزريت – حملي ثقيل – أصبر – وأرسي – يبعد همومي – لا خاب ظني – مالي مشاريه " حيث كانت هذه الصيغ التعبيرية الدالة على الذاتية منطلقة من قوله في أول القصيدة " يقول من عدّى على راس عالي " باعتبار أنه المحور الأساس الذي كانت يدور حول هذا النص , لهذا جاءت القصيدة بطريقة احتجاجية واضحة , وكانت نبرة الاحتجاج المتصاعدة في هذه الأبيات تحمل أكثر من وجه , منها الاحتجاج الرافض لغدر الأصحاب والخلان , وكذلك الاحتجاج الرافض لغدر الزمان وتقلبات الأيام , علاوة على بعض الاحتجاجات التي ضمنها بعض نصائحه الرؤية كما سيمر معنا في تتبع هذه القراءة , بينما كان الاحتجاج الأخير , هو ذلك الصادر من رغبة الشاعر بالخلاص من كل شيء , مما دفعه للحلم بواقع أفضل مما هو كائن بالنسبة له
ملامح الشخصية الفنية
الملفت في هذه القصيدة , ليس الهجوم العنيف على الواقع , وليست الحكم التي صاغها الشاعر باقتدار من خلال الوزن والقافية , والحكم في الغالب لا تمت للشعر بل ترتبط بالمنطق والاستدلال العقلي , غير أنها عامل مساعد لفهم الحالة النفسية للشاعر , أقول إن الملفت للانتباه هي هذه القدرة الفنية الجمالية التي مزجت الحقيقة بالمجاز وجعلت القصيدة تتحرك في دوائر أو لوحات فنية , كل لوحة تقود للأخرى , أي أن كل لوحة فنية من هذه القصيدة تعتبر عملاً بمفرده , والتي شملت تدرجات المد الشعوري من حزن وتأمل ونفور وعودة , وهذا لا يدل على التشتت لأن الشاعر يتحدث عن عاطفة في الغالب الأعم حالة إنسانية غير مستقرة , وهذا ما سيتضح معنا في تتبعنا لهذه القراءة
- الشخصية الهاربة من ظلم الواقع
يقول من عدى على راس عالـي
رجم طويل يدهله كـل قرنـاس
في راس مرجوم عسير المنالـي
تلعب به الأرياح مع كل نسنـاس
في مهمهٍ قفرٍ من النـاس خالـي
يشتاق له من حس بالقلب هوجاس
قعدت في راسه وحيـدٍ لحالـي
براس الطويل ملابقه تقل حراس
لعل أول ما يواجهنا في هذا النص هو الشعور بالرغبة في الانعزال عن المجموع الكوني والمجموع الإنساني , حيث لا يظهر في هذه البداية إلا صوت الشاعر الرافض للظلم , والهارب من الكون المتمثل بصعوده " الرجم " وهو مجموعة من الأحجار المتراكمة فوق بعضها بعضًا , ومنه " المرجوم " الواقع في البيت الثاني , مشبهًا نفقسه بالصقر " القرناس " الذي لا ينزل الأراضي المنخفضة , ويعشق كل ما ارتفع من الأرض , وهذا الهروب قريب من هروب الرومانسيين الذين لم يستطيعوا ردم الهوة النفسية التي تفصلهم عن الواقع , ولن نجازف ونقول بأن الشاعر هنا كان رومانسيًّا , بل هو شاعر تقليدي , غير أن جنوحه عن الواقع قريب من جنوح الرومانسيين , وعلى هذا الأساس فإن تطلع الشاعر تطلع ذاتي روحي , وليس تطلعًا واقعيًّا لأنه يريد الخلاص من واقعه المعاش , واللجوء إلى واقع الصحراء الممتد الواسع " في مهمة قفر من الناس خالي .. يشتاق له من حس بالقلب هوجاس " ويريد مفارقة الناس بما فيهم من حقد وأنانية , ولعل جنوحه الذاتي هذا جنوح تجريدي , لأنه ابن المدينة وسليل أسرة من أعرق الأسر المتحضرة في نجد , علاوة على أنه أدار شؤون بعض المناطق في المملكة العربية السعودية وتقلد منصب الأمير وهو ليس من أبناء الأسرة المالكة في السعودية
- الشخصية الاجترارية
متذكـرٍ فـي مرقبـي وش غدالـي
وصفقت بالكفين يـاسٍ علـى يـاس
أخـذت أعـد أيامـهـا والليـالـي
نيًا تقلّـب مـا عرفنـا لهـا قيـاس
كم فرّقت مـا بيـن غالـي وغالـي
لو شفت منها ربح ترجـع للإفـلاس
ياما هفـا بـه مـن رجـالٍ مدالـي
ما كنّهم ركبوا على قـب الأطعـاس
ولا قلّطوهـن للكمـيـن المـوالـي
ولا صار فوق ظهورهن قطف الأنفاس
ولا ردّدوا صـمّ الرمـك للتـوالـي
كلٍّ يبي مـن زايـد الفعـل نومـاس
من بينهـم سمـر القنـا والسلالـي
مثل البـروق برايـحٍ ليلـه أدمـاس
يعتبر صعود " الرجم " الحاصل في اللوحة الشعرية السابقة مقدمة لفهم هذا المقطع , فهو حينما صعد الأماكن العالية توحد مع ذاته , وتوحد مع الكون العلوي بعد أن ترك الناس في الأماكن المنخفضة وغادر الطبيعة البيئية الواقعة في الكون السفلي , لهذا لم يعد معه أحد في هذا الصعود , وهو ما دفعه لتشبيه نفسه بالطير الحر الأصيل " القرناس " , ووفق هذا التصور فإن الشاعر بحاجة للخلاص من همومه , وعليه لجأ إلى هذا الأسلوب الاجتراري للخلاص من كل ما فيه من أحزان من ناحية , ومن ناحية أخرى من أجل تسلية نفسه بأن الدنيا فانية ولن تدوم لأحد , فمهما عمل فيها الإنسا فإن مصيره في نهاية الأمر إلى زوال , حاله حال الذين ذكرهم وعدد أفعالهم في هذا المقطع , مبتدئًا بالتذكر و" صفقت بالكفين " كدلالة على التحسر والشعور بالضيق , ثم بدأت تتوارد على مخيلته صور الحياة متخذًا من أشكال الرجال أقنعة له وللواقع اختبأ وراءها ليعبر من خلالها عن كل أحزانه وخيباته وآماله وتطلعاته , علاوة على أن رفضه للواقع وللناس لا يدل على ضعفه وانهزاميته , وأنه عندما هرب عن الواقع وحلم بواقع حياتي أفضل كما في آخر النص , إنما يدل هذا المسلك على قدرته على التعددية في الخيارات , وأن لديه القدرة والإمكانية على البحث عن بدائل , وأنه لا يوجد لديه عائق من أن تستمر معه الحياة أو يستمر في هذه الحياة
- الشخصية الصبورة
هذه اللوحة الفنية تنقسم إلى قسمين على الرغم من أن كلا القسمين امتداد للآخر
يقطعك دنيا ما لهـا أول وتالـي
لو ضحكت للغبن تقرع بالأجراس
المستريح اللي من العقل خالـي
ما هو بلجات الهواجيس غطـاس
ففي هذين البيتين تعبير بصيغة العموم , وهو ما يعكس رغبة نفسية لدى الشاعر بأن يتمنى الوصول لهذه الدرجة لا من أجل الخضوع والاستسلام , وإنما هي نزعة إنسانية بحب التخلص من الهموم والمشاكل , وهو ما اتضحت ملامحه مع المقطع الأخير من القصيدة كما سيمر معنا
ماهوب مثلي مشكلاتـه جلالـي
أزريت أسجلهن بحبر وقرطـاس
حملي ثقيل وشايلـة باحتمالـي
واصبر على مر الليالي والاتعاس
وأرسي كما ترسي رواس الجبالي
ولا يشتكي ضلعٍ عليه القدم داس
بعد أن رسن لنا الشاعر أمنيته التي يرغب تحقيقها في هذا المشهد , تظهر حالته النفسية المثقلة بالهموم والمشاكل , حيث عكست هذه الأبيات حالة الشاعر النفسية التي يعانيها , لكننا حينما ننظر إلى القسمين كجزء واحد في هذه اللوحة ندرك أن الاجترار الذي فعله الشاعر والذي جعله يتخلص من همومه , الأمر الذي دفعه للالتفات إلى نفسه الخالقة للحياة , والنفس أعز قيمة يملكها الإنسان , لهذا رسم لنا الشاعر واقعه الخاص به في هذه اللوحة الفنية , لكنه في المقابل يمنحنا فرصة لتأمل واقع آخر افترضه الشاعر من خلال هذه الأبيات رسمه في مخيلته , وكانت هذه الصورة المرسومة تتمحور في زاويتين : الزاوية الأولى : هي التي أعلنها لنا في هذا الكلام , والزاوية الثانية : تركها لنا دون إشارة , وجعلنا نتخيلها بالطريقة التي نشاء , فشخصية الشاعر الواضحة في هذه اللوحة شخصية صلبة لديها القدرة على تحمل أعباء الحياة , في المقابل أن الآخرين ليسوا كذلك وفق نظرة الشاعر التي فهمناها من هذا السياق
هذا الإحساس بالتميز دفع الشاعر كذلك إلى مدح نفسه والثناء عليها في أكثر من موضع سواء في هذه الأبيات أو في غير هذا الموضع من هذه القصيدة , وكان يرمي الشاعر من هذا الكلام ترسيخ صورة نفسه أمام نفسه , ويريد الافتخار بما لديه من خصال , وأن لديه المقدرة الفذة على إدارة شؤون الحياة بكل اقتدار , وأنه رجل خبر الحياة وخاض معتركها , ولديه معرفة بأحوال البشر وطبائع الرجال وتقلبات الأيام , فهو رجل قوي الشكيمة - كما يتضح من هذا الكلام – وقادر على مواجهة الظروف الصعبة والتعامل معها بحزم وإرادة ثابتة
هذه الشخصية الصبورة المتبدية في هذه اللوحة الفنية جعلت الشاعر يكون شامخًا هنا كالجبال الأمر الذي دفعه لقول " وأرسي كما ترسي رواس الجبالي .. ولا يشتكي ضلعٍ عليه القدم داس " للتدليل على كبر حجمه وثباته على الأرض . وبما أننا نقرأ القصيدة قراءة نفسية معتمدين على التأويل اللغوي للمفردات الشعرية فإن من الإمكان أن يكون " ولا يشتكي ضلعٍ عليه القدم داس " تعبيرًا مجازيًّأ خرج عن الحقيقة المعروفة , باعتبار أن الإنسان هو مجموعة من " الضلوع " التي تشكل هيكله الجسماني , وعلى أساس هذا التصور الذي نميل إليه ونستأنس به فإن " الضلع " من الرجال هو الرجل الأصيل ة وابن " الحمولة " العريقة في النسب , ووفق هذا الفهم يمكننا فهم " القدم " بأنه الرجل الأقل منه أو الزمن المتغير غير الثابت باعتبار أن القدم على الدوام متحركة وغير ثابتة , حالها كحال الزمن المستمر بالحركة , , والتي كانت واضحة من خلال قوله " عليه القدم داس " للتدليل على هذا المعنى البعيد القريب في آن
- الشخصية الراغبة بالهدوء
يا بجاد شب النـار وادن الدلالـي
واحمس لنا يا بجاد ما يقعد الـراس
ودقه بنجرٍ يـا ظريـف العيالـي
يجذب لنا ربعٍ على أكوار جـلاس
وزله إلى منّـه رقـد كـل سالـي
وخله يفوح وقنّـن الهيـل بقيـاس
وصبه ومدّه يـا كريـم السبالـي
يبعد همومي يوم اشمـه بالانفـاس
فنجال يغدي مـا تصـور ببالـي
وروابعٍ تضرب بها أخماس وأسداس
إحساس الشاعر السديري بنشوة الانتصار أمام نفسه دفعه لمواصلة المقاومة الذاتية للظلم , لهذا حضر مشهد القهوة العربية وكأنها فترة انتقالية لِمَا بعدها , حيث تعتبر " الدلال والفناجيل " وعملية الاستعداد لطبخ القهوة ومن ثم التمتع بشربها مسألة خدمت النص وخدمت كذلك حالة الشاعر النفسية في آن , خدمت النص عندما سهلت عملية الانتقال من حالة إلى حالة أخرى , وخدمت الشاعر حينما منحته فرصة للهدوء والتأمل من أجل التخلص من أجل ما تبقى من همومه وآـلامه النفسية , لكنها من جانب آخر عمّقت الإحساس بالتميز , وأعلت من صوت " الأنا " لديه , وكان هذا الصوت مدويًا في المقطع السابق , وقد انعكس هذا الموقف في هذه الأبيات التي تحدث فيها الشاعر عن القهوة , مناشدًا صاحبه " بجاد " بأن يجد ويجتهد لعمل القهوة , وفي هذا المشهد لم نلحظ حوله إناسًا آخرين غير " بجاد " الطاهي للقهوة , ومهما تكن حقيقة شخصية " بجاد " في هذه اللوحة الفنية فإن الشاعر لم يكن في منأى عن العرف العربي والنبطي فيما بعد في توجيهه للخطاب الشعري للصاحب والرفيق , حيث نلحظ أن الضمير تحول من صيغة المفرد كما في السابق إلى صيغة الجمع " احمس لنا – يجذب لنا " , ومما يؤكد الاعتقاد الذي نميل إليه بأنه كان يعني نفسه في هذين الضميرين قوله فيما بعد " يبعد همومي يوم اشمه بالأنفاس " , أما الربع الذين يتخيلهم قادمين إليه وهم راكبوا أكوار الإبل , إنما هي إضافة افتراضية لواقع يأمل تحقيقه ويرجو الوصول إليه , متمنيًا منهم أن يخترقوا ستائر المجهول وحجب الغيب وهم يتقدمون إليه راكبين فوق الإبل , لأنه غير واثق بالواقع ورافض لكل معطياته المعاشة , وهذا مؤشر أن الشاعر انتقائي في اختياراته , لهذا فهو لا يريد إلا إناسًا هذه صفاتهم , أي أنه يريد رجالاً يتحلون بصفات الصبر والجلادة والقدرة الفذة على تحمل أعباء الرحلة وهم يجتازون صمت الصحراء الموحش الرهيب
إن شرب القهوة والانتشاء بها لم تدفع الشاعر للخدر والانطواء , ومن ثم الانعزال والاستسلام للهزيمة النفسية , بل حرضته القهوة على استمرارية الموقف , وباعتبار أن القهوة مادة منبهة فقد أشعلت ذهن الشاعر وغذّت الحماس في مشاعره , وسكبت فيه طاقة شعورية قوية , ومع أن هذا المقطع مقطع الهدوء إلا أنه هدوء مرحلي غير مستمر , بل أعادت هذه الظروف للشاعر حيويته وبثت فيه روح الحياة والنشاط , وذلك عن طريق التمسك بالذاتية المفرطة بالحدة , لهذا صار يطلق الأحكام التي يراها مناسبة وضرورة ملحة من أجل تعديل كفة الميزان من خلال وجهة نظره
- الشخصية الانفعالية
لا خاب ظنـي بالرفيـق الموالـي
مالي مشاريهٍ علـى نايـد النـاس
لعل قصـرٍ مـا يجيلـه ظلالـي
ينهد مـن عـال مبانيـه للسـاس
لا صار ما هو مدهـلٍ للرجالـي
وملجا لمن هو يشكيَ الضيم والباس
بحسناك يا منشي حقـوق الخيالـي
يا خالق أجناسٍ ويا مغني أجنـاس
تجعل مقـره دارسٍ العهـد بالـي
صحصاح دوٍّ دارسٍ ما به أونـاس
البوم فـي تالـي هدامـه يلالـي
جزاك يا قصر الخنا وكر الأدنـاس
الشاعر لم يحتمل العيش بصمت , وأبى إلا أن يعلن موقفه الصريح بكل وضوح ودون محاباة أو شعور بالتبعية " لا خاب ظني بالرفيق الموالي .. مالي مشاريه على نايد الناس " فهو هنا يقطع كل صلة له بالواقع , ويتجرد من كل إحساس بذلك الواقع الذي تحوّل عنده إلى ركام , وأدار ظهره عن الدنيا التي كان يعيش فيها , وبدأ يتخيل واقعه الذي ظل يلوح له من وراء الأفق , وهو يتخيله قادمًا إليه مخترقًا حجب الغيب وستائر المجهول , كما هو واضح بجلاء في اللوحة الفنية التالية والأخيرة من هذا النص , لهذا جاءت عباراته الشعرية حادة عنيفة شرسة وذلك أنه لم يعد نادمًا على ما سيخسره فيما بعد
لعل قصرٍ ما يجيله ظلالي
ينهد من عال مبانيه للساس
ثم قوله بعد ذلك
تجعل مقره دارسٍ العهـد بالـي
صحصاح دوٍّ دارسٍ ما به أوناس
البوم في تالـي هدامـه يلالـي
جزاك يا قصر الخنا وكر الأدناس
كإشارة على أنه وصل درجة عالية من التأزم النفسي , مما دفعه لقول كل شيء دون تفكير بالتراجع , راغبًا بالخلاص من هذا الواقع , ونفض كلتا يديه منه
من جهة أخرى تعتبر الحكم المصاغة باقتدار في هذا المقطع أو في بقية أجزاء القصيدة , لا تعتبر من وجهة نظري أنها مؤشر على مقدرة الشاعر أن لديه الإمكانية على أن يمنطق الأشياء التي تعكس حقيقة رؤيته الذاتية للحياة والواقع بالدرجة الأولى , على الرغم من أن ضخ القصائد النبطية التقليدية بالحكم والأمثال تعتبر عادة متعارف عليها لدى العامين في هذا المجال , فإن الشاعر يبدو لي من خلال التعمق في قراءة هذا النص يريد تسلية نفسه في المقام الأول , وذلك من خلال حرصه على إعلاء صوت الذاتية في هذه الحكم , فهو في هذه الصيغ التعبيرية يريد مواساة نفسه وحثها على الصبر والتجلد والجد والاجتهاد في تحملها لأعباء الحياة , وأن هذه الأبيات خير رفيق ومسلٍّ له على تنكر الأصحاب والخلان وغدر الزمان له , لهذا كانت هذه الحكم نابعة من رغبة الشاعر في إثبات قدرته الذاتية على الفاعلية بعدما أحس بكل هذا النكران والجحود , وعليه فالشاعر يعيش هنا وضعًا مزدوجًا , هما الوضع الداخلي المعتمل في نفسه المثقلة بإحساس الغبن والقهر والذي دفعه لقول هذه القصيدة , والوضع الخارجي المتمثل بجنوحه إلى صياغة الحكم لتبيان قدرته على البحث عن خيارات حياتية أفضل , وهذا ما لمسناه بوضوح في آخر النص , فقد جاءت هذه الحكم أشبه ما تكون بالمشرط الذي أسال الدم الفاسد وقطع أي ارتباط للشاعر بواقعه الملموس المعاش
- الشخصية المتأملة الحالمة
متـى تربـع دارنـا والمغـالـي
وتخضر فياضٍ عقب ما هيب يباس
نشوف فيهـا الديدحـان متوالـي
مثل الرعاف بخصر مدقوق الالعاس
وينثر على البيدا سـوات الزوالـي
يشرق حماره شرقة الصبغ بالكـاس
وتكبر دفوف معبّسـات الشمالـي
ويبني عليهن الشحم مثل الأطعـاس
الشيء المثير للانتباه في هذا النص أن الكثير من الناس تعلقوا بهذه القصيدة وتعاطفوا معها , ولا أظن أن السبب يعود لمكانة الشاعر الأمير محمد بن أحمد السديري الاجتماعية في المقام الأول , ولا يرجع الأمر كذلك كما أعتقد إلى قوة هذه القصيدة , مع العلم أن كلا الخيارين لا يمكن إغفالهما في هذا الجانب خاصة عند الذين ينظرون للأمور بشكل مسطح , ولا يحاولون النفاذ من السطح الخارجي إلى العمق الإنساني النفسي في العمل الشعري , حيث أرى أن هناك عاملاً قويًّا , وقوي جدًّا لم ينتبه إليه الكثيرون – كما أتصور – وهو الذي جعل الغالبية من الناس إن لم يكن كل من وقف على هذه القصيدة بحال من الأحوال قراءة أو سماعًا , وهو أن الشاعر أشبع رغبتنا الإنسانية في الارتواء من قيم الرجولة والشهامة والكرم , وعمل على تغذية قيم الإنسان ومبادئه العليا الكامنة في ذات كل واحد منا , علاوة على هذا النفس الرومانسي الذي سكبه في منعطفات هذا العمل الشعري , والذي جاء بطريقة تختلف عن طريقة الرومانسيين , حيث أنه عمل على الهروب من الواقع حاله كحال الرومانسيين في ذلك , حيث خرج من الواقع ولجأ إلى الطبيعة كما في هذا المقطع , وقد يكون هروبه هنا هروبًا مجردًا لا هروبًا حقيقيًّا حاله كحال ذوي الاتجاه الرومانسي أيضًا , لكنه تميز عليهم بعدم الانكفاء على الذات والانكماش والتقوقع حول الذاتية , غير أن مفرداته الشعرية وأساليبه اللغوية كانت تصاغ بطريقة تقليدية واضحة , وهذا ما جعل الأمر يبدو أكثر غرابة وأجمل في الاستمتاع
هذا الوضع الذي فعله الشاعر , والمتمثل بإشباعنا بمخزون كثيف من القيم الإنسانية لم يكن مقصورًا عليه دون سواه في شعرنا النبطي , , لكن قدرته الفنية على الصياغة التعبيرية هي التي مكنت نصه الشعري من بلوغ هذه المنزلة الرفيعة في النفس والذاكرة الشعبية لدى الناس , غير أن إشعاله لمنابع القوة والنخوة والإباء الكامنة في نفوسنا هي العامل الأساس في تصوري في دعم هذا التوجه , , وهذا العامل يقوى ويضعف تبعًا لتقلبات الزمان وصروف الأيام . لهذا كان انتماء الشاعر إلى الحرية والخلاص من ثقل الواقع هو الذي جعله يتطلع للهروب من الواقع راغبًا بالطبيعة , حيث لا حقد ولا أنانية في التعامل مع الحياة من خلال الاستمتاع برؤية " الديدحان " وهو نوع من أنواع النباتات قريبة الشله من شقائق النعمان كما يبدو , والذي شبهه بـ " الرعاف " في خصر " مدقوق الألعاس " أي كالخرز الجميل في وسط الفتاة النحيلة الممشوقة القوام مستبدلاً عالم البشر بعالم الإبل " معبّسات الشمالي " وهي النوق من الإبل المعروفة بـ الخلفات " , " والشّمال التي مفردها الشملة " , فهو لا يريد من الحياة إلا الابتعاد عن دسائس البشر وأنانيتهم مستبدلاً إياهم بعالم جديد فيه النباتات الطبيعية الجميلة والإبل المكتنزة بالحليب الممتلئات بالحياة والشحم الكثير " عليهن الشحم مثل الأطعاس " , مسخرًا معطيات البيئة خدمة له ولتسليته من الهموم والأحزان من أجل الخلاص من واقعه المؤلم , لخلق حالة نفسية جديدة له تحفظ له توازنه الداخلي بعد ما عانى من عنت الآخرين وجحودهم ونكرانهم له
الخاتمة
تبدو القصيدة من حيث النظرة الإجمالية قصيدة غير متماسكة البناء , وتفتقر إلى الوحدة العضوية التي تربط بين أجزائها , وهذا وضع عام في القصيدة النبطية التقليدية ولا يتحمله السديري هنا العبء بمفرده , غير أننا حينما نقسم هذا العمل الشعري إلى لوحات فنية متعددة , نجد أن هذه اللوحات هي عبارة عن لوحات فنية متماسكة كل على حدة , وكل لوحة في الغالب توصل إلى اللوحة الفنية التي تليها كما هو الحال مع هذا القصيدة المبنية على تعدد ملامح الشخصية الفنية فيها , وهذا لن يتأتّى لنا ما لم ننظر إلى الحالة النفسية التي يمر بها الشاعر في هذا القصيدة , أو أثناء تدوينه لهذا العمل الشعري , الأمر الذي جعلنا ندرك في نهاية المطاف بأن كل لوحة فنية كانت تقود إلى أختها التي تليها وتبرر وجودها ضمن هذا السياق