في الجزءين السابقين لاحظنا كيف شكل الأمير بدر بن عبدالمحسن نصوصه بالعديد من
الصور الشعرية الجديدة حديثة النشأة والمولد، متفردة الفكرة بدلالاتها الخمس؛ اللغوية
والذهنية والنفسية والرمزية والبلاغية، مضيفا مخزونا تصويريا ثريا للمتذوق والمتلقي
الباحث عن أجواء توفر متعه الشعور ومشاركة الإحساس..
وها نحن نكمل سويا تلك الرحلة الحالمة بين الشعور واللاشعور، بين سحر الصورة
ونهرها المتدفق عبر تيارات الإبداع ولحظات الإمتاع.
في مشهد شعري آخر من نص (صياح الباب) نتتبع ألوان الصور وأبعادها في لوحة تحمل
توقيع البدر:
صياح الباب يكفي لا ظهرت وبكتم صياحي..
لك الله لو تبيني أصرخ حبيبي لاتهج الباب
(صياح الباب يكفي) صوت الحب المحافظ الصادق وإذا أردتني أن أناديلك وأتواصل معك
أرجو ألا تفتح الباب على مصراعيه قاطعا بذلك كل سر بيننا وفاتحاً المجال للداخل والخارج.
للصورة الشعرية تأثير واضح على إحساس المتلقي وفضاء رحب لاستدراج مشاعره
فبهذه الصورة يحاول البدر أن يستنطق الطرف الآخر وبأي طريقة ووسيلة فلنتأمل هذه الصور معه:
تكلم واحرق بنار العتب طيني والواحي..
عيوني لك مرايا لو تبي وافتح ضلوعي كتاب
(طيني والواحي) أخرج من طورك وعاتبني واجعل مشاعري وأحاسيسي تلتهب وتحترق
(عيوني لك مرايا).. فالنظر إلى حبك وعلو قدرك عندي من خلال مرآة عيوني التي تعكس لك مشاعري.
بكل صدق وصفاء (وافتح ضلوعي كتاب).. فتش في مكنون قلبي وأسراره وما أواريه عن
عيون البشر الذي هو بمثابة الكتاب المفتوح لك.. فلاحظنا كيف كثف هذه الصور باختصار
للفظ ودقة ورقة في المعنى.
ثم يأتي عنصر المكاشفة والمصارحة في هذا البيت وبصورة مكثفة تستنطق الحواس وتعمق المعنى فيقول هنا:
وان مات الحكي ما عاد ينفع ضحكي ونواحي..
يقولون الذي كاره يلاقي للفراق اسباب
فإن (مات الحكي) الكلام الحي بيننا المرتوي بالحب والمتدفق بالوصول فلا فائدة من رضاي وحزني.
وكما قيل في المثل: (الذي كاره يلاقي للفراق اسباب).. الذي يريد الصد والجفاء فسيجد
الكثير والكثير من الأسباب التي تؤدي لقطع العلاقة وما يتسبب بإنهائها.
حبيبي والوداع نعاس نجم والجفن صاحي..
واحلام الرماد ولفتة تملا الدروب غياب
(الوداع نعاس نجم).. كأنه النجم بضوئه الخافت الملوح بالأفق الذي يظهر تارة ويغيب تارة
متأرجحا بين السقوط والبقاء (والجفن صاحي) لم يستسلم أو ينقاد للمؤثرات (واحلام
الرماد) تلك الأحلام التي أصبحت رماد لعدم تحقيقها أو معايشتها (ولفتة) والنظرة للخلف
ملأت الطرق بذلك الغياب الذي لا أرى غيرك فيه ونكمل بقية المشهد مع هذه الصورة
التي تجسد ذلك الموقف الأخير والنهاية الحزينة في لحظة اشتعل الأسى في أطرافها والوجد في أنفاسها:
مفارق والذي يخليك لحظة بطفي مصباحي..
تعرى الدمع ساعدني البسه الظلام ثياب
وما دام الفراق قد حان موعده أمهلني لأطفئ ضوء قلبي وأطوي صفحة حبي معك.. فقد بان جسد الدمع وظهر عاريا فسألبسه ثياب الحزن والسواد.
وللصورة الشعرية في نص (عيونك) حضور أخاذ، فكان لمشاهد المعركة قديما مكان
وسيرة هنا موظفا تلك المفردات التي تواكب الغزو، وتتمحور منه بتحريك سريع للقطة
كي لا تفقد حراراتها وقمة توهجها، فيقول البدر:
ف.. عيونك جنود.. وبواريد ورماه..
غزو.. ورمشك صار مقدم سبوره
بنظراتك وعيونك الساحرة جيش من القناصة والمصيبين للهدف بكل دقة وتركيز، فتقتل
كل من يراها أو يلمحها وكأن رموشك الصافة في المقدمة طلائع ذلك الجيش الغازي من
فرسان يتمتعون بالشجاعة وخفة الحركة.
وننتقل لبداية ذلك الغزو ومباغتته لحدود القلب حيث نرى في هذه الصورة الشعرية تسلسل الحدث:
صبّح به اللي داله القلب بحماه..
قبل النذير.. وقبل يملك شعوره
فصبح ذلك الجيش على حين غرة القلب المستأنس في مكانه الذي لم يجرب الحب والهوى..
وكأننا أمام مشهد حي لمعركة بكرها وفرها بضحاياها وأسراها وهنا تكمن قدرة البدر
في براعته وقدرته على جعل تلك الأنساق تتفاعل ضمن السياق بلغتها وصورها
وأسلوبها وطريقة بنائها فأترككم مع هذه اللقطة:
أنا الصويب اللي غشت صدره دماه..
شلفا عيونك هشمت مش زوره
فأنا الذي صوبت بتلك الغزوة (النظرة) وتسربل القلب بالدم وأثخنت الجراح من: (شلفا
عيونك) التي أصابت (مش زوره) وهو وسط الصدر الذي تتلاقى الأضلع فيه، فتهشم
جراء تلك الطلقة بالكسور فأصبح بعدها مأسوراً ينتظر فك قيده. ومن نص (قمرا) تتموج
الصور داخل النص على ايقاع الحنين وشوق يتأجج بالمشاعر، ويضج بالوله في إبداع
باسق وخيال وارف نحظى بهذه الصور المدهشة المنعشة:
انتي مثل قمراً على صفحة الما..
له صورة عندي وهي في السما فوق
اتصافحك عيني وأنا كفي أعمي..
مالي جدى إلا مصافح الموق للموق
فوجهك المنير ببعده عني مثل القمر الذي تظهر صورته في الماء عاليا في السماء
فكلاكما بعيد، وإن قربت الملامح واتضحت (اتصافحك عيني) تنظر لك وتطيل النظر
ملامسة لجمالك وبهائك (وأنا كفي أعمى)..
فاقدة طريقها لك لعدم استطاعتي أن أضعها بيدك لأسباب تعرفيها، ولكن لا حيلة ولا
جدوى لي، إلا أن يصافح موق عيوني لموق ملامحك بالصورة أو بنظراتي لك:
ياما شربتك شوف من خوف لا أظما..
وياما الوله للوصل يبس بي عروق
(شربتك شوف).. أطيل النظر لك خوفا أن يقضي الوله والشوق عليّ.
(يبس بي عروق) للوله وحرارة الانتظار نشفت ويبست عروق قلبي جراء هذا الترقب والبعد.
ثم يقول من شدة الشوق والوله:
ويالتني بدلت نورك بظلما
واخترت لي غيرك من الناس مخلوق
(بدلت نورك بظلما) لم أتعرف عليك وأقرب من نور حبك وتولعي بك، وليتني اخترت
وأحببت شخصا غيرك لا يزرع فيني الحنين والشوق وأنا أحصد الانتظار من حقول
المواعيد، كما فعلته أنت بقلبي.
ومن نص (ربيع الحب):
خاط القدر بسلوك حكمه كفنا
وإلى حكم وش ياترى بيد الإنسان
تتجلى هذه الصورة عبر تيارات الشعور مجسدة تلك اللحظة التي يقف عندها الإنسان
عاجزا عن التصرف والحيلة للخروج من دوامة الظروف؛ فهذا هو القدر قد نسج لنا كفن
ا من الألم والأسى بحكمه وتدبيره القاسي.
نشاهد سويا هذه الصور وكيف صور لنا العمر الضائع معها بتلك المواعيد الكاذبة التي
التصق غبار خداعها بأسفل ثوبها.. والحقيقة التي تستر بها فلنقرأ من نص (شاعر):
أمانه لا تصبين العمر في كاسي المكسور
يضيع العمر ما يبقى سوى الإبهام وانيابك
ومن نفس النص نقف عند هذه الصور الشعرية:
ألا
ياطفلتي ماهو الهوى هالشارع المهجور
ولا هو ريحة غبار الوعد في أسفل ثيابك
وهنا تعبير واضح عن معنى العاطفة الحقيقية والثقة بالنفس:
كذب من قال ورد العاطفه ينبت بظل السور
وجبان اللي يخاف الناس لو وقف على بابك
ومن نص (موت وميلاد) نتلمس دفء الصورة الشعرية عبر إشراقة الشمس وغيابها،
وفي طريق السهر تلتقي القلوب وتنساب المشاعر والأحاسيس فلنتابع سيل الصور المتدفق عبر بوابة الوعي:
ف عيني تغيب الشمس.. وتشرق اف عيني..
في ناظري للشمس.. موتٍ وميلاد
(الشمس).. المحبوبة فأصبحت الشمس ملازمة زمانا ومكانا صباحا ومساء ثم
ننتقل للصورة الأخرى (في ناظري للشمس.. موتٍ وميلاد) فعندما أنظر للمحبوبة تتغيب
الحواس وينغمس الذهن وتتوقف الذاكرة ثم أعود مجددا لحالتي الأولى فتنتشي الروح
ويعشوشب البوح وترتوي العروق وكأنني ولدت من جديد جراء تلك النظرة، فاختصر البدر
هذا الموقف بهذه الصورة في كلمتين (موتٍ وميلاد).
ثم يصور البدر الانطباع الداخلي للذات، وعما يختلج بالقلب حيال تلك الشمس:
لليل في دمعي سنا.. نجمتين...
وللصبح في جفني شفق هم وسهاد
فعندما يحل الليل على وتهجع الخليقة يشع سنا النجم من الدموع كناية عن السهر
الطويل والوجد واللوعة، وعندما يبزغ الفجر يعتلي جفني شفق من الهم بسوداويته و
(سهاد) وهو من درجات النوم يأتي بعد السنة وقبل الكرى أي أنه يحل على الصبح
ولازال القلق والأسى مصاحبا لي والنوم بعيدا عن جفني.
ويعلل البدر والخطاب هنا موجه للمحبوبة.. أن عدم حبه للنوم وسبب سهره الطويل في هذا البيت:
كن السهر دربٍ عليه اب تجين...
ولا ودي أقطع درب لاماك برقاد
فكأن سهري هذا هو الطريقة والحيلة والوقت الوحيد الذي سيوصلني ويجمعني بك ولا
أرغب في النوم وأحاربه كي لا أحرم من هذا الحضور والحبور المنتظر.
فالأمير بدر بن عبدالمحسن شاعر وفنان، ينساب تدفقه الفني من داخل ذاته للخارج
يستكشف الموجودات بألوانها وأبعادها وأطيافها الساحرة المؤثرة بداخله، فيصوغها
ويمزجها بأسلوبه عبر مداد قلمه وألوان ريشته, فتنبثق هذه الصور من مفاهيم لها جذور
من اللغة والثقافة وكامنة منها والتي من خلالها نتلمس جمالية الشكل وومضات الرؤية
والرؤيا المتميزة بالدقة والعمق والحيوية والشمولية، ومهما حاولنا أن نكتب عن تجربة
بدر بن عبدالمحسن فسنكون قاصرين دون هذه التجربة الثرية ومقصرين في تتبع أثر
معطياته الفنية، وما هذا التواجد إلا محاولة بسيطة لسبر أغوار الصورة الشعرية وتتبع لمسارب الضوء الصادرة منها.
الأثنين 17 محرم 1428 هـ
http://search.suhuf.net.sa/2007jaz/feb/5/tr2.htm