كيف أطفي الريح بثيابـك , وكيـف أشعلـك
كيف أتنثر على جمـرك , وكيـف أحتويـك
نقضت ليل الحرير , وجيت ما أنت لـ... هلك
سميـت باللـي فتنـي بـك وقلـت أفتديـك
هذا أول الـدرب , أو هـذا الطريـق أولـك
جيـت أتوقـى عذابـات المـدى وأهتديـك
شوقـي مسافـة , وهمساتـك مـدار وفلـك
إن ما ضميتك غلا ... يا علّني مـا أرتويـك
إيه أعرفك , وأعرف إني من غـلاك أدخلـك
مرات أضمك وأخاف إني ... مشبـه عليـك
مـرات أشوفـك بنفـس الوقـت وأتخيـلـك
وأنشد كفوفي عن آخـر سالفـة مـن يديـك
أعـنّ لـك لـو تصـبّ المـوت وأتهيّلـك
وأجوع لـك , وأتمنـى خنجـرك وأشتهيـك
ما قلت لك ... عمر سيف العشق مـا يقتلـك
ما تشوفني حي قدامـك وأنـا أمـوت فيـك
مليـت جمـر انتظـارك واستحيـت أسألـك
واحسبتني ما بعـد جيتـك وفكـرت أجيـك
أثرك بقلبـي مـن البـارح وأنـا أستعجلـك
وأثري نسيتك من الفرحـة وقمـت أحتريـك
حقيقة كنت أستمتع بقراءة القصيدة قبل التفكير بالكتابة عنها ... كان طلال حمزة يطلّ عليّ بين لحظة وأخرى وهو يقول بأصوات متعددة وبنبرات مختلفة :
لو يسألون الناس : وش أعجبك فيه
...... قولي لهم : شفته بحالة كتابة
لهذا كنت أنتقل من قراءة القصيدة إلى ما وراء القصيدة ... ليس بمعناه العام الشامل بل بمعناه الخاص المحددة ... ألا وهو الشاعر ... كيف كان يبدو متجليا وهو يمارس هذا العزف المنفرد على أوتار الخليل ؟؟؟؟
أحاول أن أقف على نقطة تفصل الاثنين عن بعضهما البعض ... الشاعر والقصيدة ... لأتمكن من رؤية الاثنين معا .
عندما قرأت هذا النص منذ سنوات طويت القصيدة جانبا , ووضعتها في مكان خاص ... كان نصا فريدا فتح لي النوافذ , وشرع لي الأبواب , وجعلني أطلّ عليه من أكثر من نافذة , وأدخل معه إلى عالم الشعر من أبواب متعددة .
نفس عاطفي فياض .... ولغة شعرية متوثبة
" كلمات ليست كالكلمات " كما يقول نزار قباني
كيف أطفي الريح بثيابك , وكيف أشعلك
....... كيف أتنثر على جمرك , وكيف أحتويك
مطلع قصيدة يضج بسؤال من الصعب الإجابة عليه في هذا المرور ... ومن الصعب تركه يمر هكذا دون الوقوف عنده ...
مطلع يتوثب شهوة , يريد سحق الآخر المقابل له بطريقة لا يجيدها إلا العاشق الشاعر أو الشاعر العاشق ... لقد وجد لذة الحياة في الموت ... الموت بين غابات الزعتر .
إن تكرار أداة السؤال ( كيف ) أربع مرات في هذا البيت المتبوعة بأربعة أفعال مضارعة ( أطفي ــ أشعلك ــ أتنثر ــ أحتويك ) الدالة على استمرارية حركة الغرام المتوثبة , توحي بأن الشاعر في وضع غير متزن وغير منضبط , لم يستطع معه السيطرة على نفسه وعلى مشاعره وتصرفاته ... لأنه جعل مركز الدائرة في العملية الشعرية لا حركية الغرام , بل مفردة ( جمرك ) الدالة على الجنس بشكل واضح و لذا جاءت الأسئلة ولا سيما السؤالين الأولين كمفتاح للسؤال الثالث أو كمحصلة نهائية لتوضيح السؤال الثالث .
نقضت ليل الحرير , وجيت ما أنت لــ ... هلك
........ سميت باللي فتني بك وقلت أفتديك
تتجدد الصورة السابقة , ويتمدد المشهد على سطح جسد الأنثى المعشوقة المحبوبة إلى درجة الجنون والفتنة ... هنا يتلذذ الشاعر بالجمع بين الانتشار على غابات الزعتر والاستمتاع بالتعلق بأغصان التوت ... لهذا يعلن الشاعر الاستسلام والتسليم لهذه القوة الكونية الجبارة التي خلقت له محبوبته من عالم العدم وألبستها تاج الجمال والفتنة .
في البيت الأول , كما في البيت الثاني كان الشاعر يستحضر الجغرافيا ... جغرافيا جسد الأنثى ... وسوف تتضح لنا ملامح هذه الجغرافيا كما سنرى في هذا النص .
هذا أول الدرب , أو هذا الطريق أولك
....... جيت أتوقى عذابات المدى وأهتديك
أعتقد لو كان الشاعر مبتدئا , أو لا يملك مقومات الشاعر الحقيقي , وهي الإبداع والقدرة على التلاعب بالمفردة الشعرية , وكسب احترام المتلقي لِما يكتبه قبل إعجابه .
أقول لو كان الشاعر كذلك لجعل هذا البيت مطلع القصيدة , لأنه يحمل ملامح البداية للوهلة الأولى .. لكنه فضّل أن يكون هنا , وكأنه بدأ القصيدة من المنتصف أو أعلى المنتصف , وكأن البيتين السابقين توطئة لهذا النص الشعري الجميل .
لا يوجد سبب مقنع حقيقة لاتخاذ هذا الرأي , لكنه إحساس ينتابني في كل مرة أعود فيها لقراءة هذه القصيدة .
شوقي مسافة , وهمساتك مدار وفلك
........ إن ما ضميتك غلا ... يا علّني ما أرتويك
هنا تبرز ملامح العلاقة الحميمية بين الشاعر ومعشوقته ... وهي لا تخرج من حيّز الجغرافيا ... انتقل الشاعر من جغرافيا الجسد كما في الأبيات السابقة إلى جغرافيا الحب , ولعل تداعيات النزوة وثورة الحب المتفجرة لدى الشاعر فرضت نفسها عليه من خلال سياق الشوق والحنين ( مسافة ــ مدار ــ فلك ) . وإذا عدنا إلى البيت السابق قليلا نرى ( الدرب ــ الطريق ) وهي أماكن ضيقة اجتازها الشاعر إلى ما هو أوسع وأرحب ككلمة ( الدمى ) التي في نفس البيت , ثم ( مسافة ــ مدارــ فلك ) كما في البيت الذي نحن في صدد الحديث عنه , وكأن الشاعر خرج من النفق المظلم إلى الحياة العامة الواسعة , وتخلص من جغرافيا الجسد وجغرافيا الحب ليحترق بها ومعها من خلال حضور ( سيف العشق ) وانتقاله من دور العبد إلى ممارسة دور السيد كما سيظهر معنا .
من المعروف بداهة أن الماء عنصر الحياة على سطح الجغرافيا , لكن جغرافيا الشاعر توع آخر وشكل آخر , لهذا كان عنصر الحياة بالنسبة للشاعر شيئ آخر ... ألا وهو ( همساتك ) , هذه الرسائل الغرامية التي منحت الشاعر متعة الحياة وألبسته ثوب العافية .
رغم كل حدود تلك المسافة اللا متناهية لــ ( همسات المحبوبة ) , وقدرتها الكبيرة على منح الشاعر الحياة والحب ... أقول ... رغم كل تلك الحدود , ضاع الشاعر , وأعلن عدم مقدرته بها ومعها إلى ما يريد إلا بطوق نجاة .
إيه أعرفك , وأعرف إني من غلاك أدخلك
...... مرات أضمك وأخاف إني ... مشبه عليك
يلجأ الشاعر للإجابة على سؤال طرحه في ذهنه والإجابة عليه بهذه الصيغة , كمحاولة منه لتفريغ ما في نفسه من مواقف سابقة يريد التخلص منها لمواصلة مهنا والعيش معها .
في هذا البيت تتضح الصورة أمام الشاعر وتتلاشى حتى يصعب الفصل بين الموقفين : موقف المعرفة ... وموقف الجهل .
المعرفة الكامنة في قوله ( أضمك ) ... والجهل الواضح في قوله ( مشبه عليك ) .
هذا الموقف موقف إنساني عام يعيشه الكثيرون ويمرون به في حياتهم الخاصة ... ولا سيما بالمواقف الشبيهة بموقف الشاعر ... غير أن الشاعر اختصر علينا الكثير مما نريد قوله والحديث عنه بما وهبه الله سبحانه من نفس شعري وعاطفة أدبية صادقة وقدرة على التحكم بمفردات اللغة .
مرات أشوفك بنفس الوقت وأتخيلك
وأنشد كفوفي عن آخر سالفة من يديك
يتمدد المشهد ويتواصل لا يتشابه أو يتطابق ... ويمكن للقارئ أن لا يعتقد هذا الاعتقاد , ولعله يكون محقا في هذا الزعم , لكن لي رأي آخر أريد توضيحه .
التكرار أزمة يعاني منها أكثر الشعراء , ولكل واحد منهم وضعه الخاص , وحظه من التوفيق أو عدمه من هذا التكرار .
هنا يتواصل المشهد بنفس الحرارة , وبنفس العاطفة التي تتمازج فيها الرؤى .
في البيت الأول كان الوضوح والتلاشي يبدوان من خلال عملية ( الضم والإنكار ) حيث ينغرس كل منهما بالآخر ... وعلى أدق تعبير ينغرس الشاعر بالمحبوبة عن طريق ( أضمك ) لأنه صاحب الفعل , هذا الفعل الذي جعله يجهل المحبوبة في اللحظة التي يعرفها فيها . لكنه في هذا البيت الذي نحن في صدد الحديث عنه وتناوله , يبتعد عنها إلى النقطة التي تمكنه من رؤيتها بشكل واضح .
هنا يبدأ يتخيلها ... هذا التخيل منح الشاعر رؤيتها مرتين , مرة على أرض الواقع , ومرة أخرى في الحلم , وهو حلم اليقظة الذي يكون أجمل وألذ من أحلام النوم التي قد تخرج الإنسان من متعة النوم وترميه في كوابيس لا جدوى منها .
في البيت السابق كان الشاعر مندمجا بها إلى درجة الإنغراس . أما في هذا البيت , ابتعد عنها ... ابتعد عنها بكل جسده إلا يديه , ليؤكد لنا أنها لا زالت تحت سيطرته وفي مجال نفوذه , لأن اليد , والتي استعاض عنها بالــ ( كفوف )
التي هي من علامات علامات السطوة والقدرة والإمتلاك ... لكنها سلطة المنتشي بقرب المحبوب المتعطش إليه , لا سلطة الراغب في البطش .
أعنّ لك لو تصبّ الموت وأتهيّلك
...... وأجوع لك , وأتمنى خنجرك وأشتهيك
المتمعن في النظر لهذا النص يرى كمية لا بأس بها من التضادات والتناقضات تنساب بين جيوب النص كــ ( أطفي ـ أشعلك ) و ( أتنثر ـ أحتويك ) وذلك في البيت الأول , و ( أعرفك ـ أجهلك ) في البيت الخامس . وهذه الأمثلة متكررة في النص . وهذا البيت لا تنسلخ عن الإطار العام للقصيدة , حيث يستمر الشاعر في نفس السياق , وهو سياق التناقض ... تناقض المشاعر إلى درجة التشابه والتوحد ... التشابه مع المحبوبة في حرارة اللقاء والإنغماس معها في عالم الغرام , والتوحد عنها في بعض المواقف للشعور بنوع من التميز والقدرة على السيطرة . نقول ..... يستمر الشاعر بهذا السياق إلى درجة التشابه والتوحد بنبرة التحدي لها ولنفسه ... لها , ليؤكد مدى هيامه الشديد بها , وليبرهن لنفسه وللمحبوبة كذلك حتى نكون اكثر صدقا , ليبرهن لها ولنفسه قدرته على الجمع بين التناقضات وإمكانية اتخاذ الموقف الذي يريد أن يتوافق مع لحظة الهيجان الجسدي الذي أفقد الشاعر السيطرة على نفسه فيما بعد و, وهو ابن مجتمع محافظ , حيث أطلّ شبح الغريزة أمامنا في أكثر من موقف .
حتى يكون هذا الرأي متخذا طابع التدليل ... نترك للقارئ قراءة البيت التالي بتمعن ورويّة , مركزا على عبارة ( سيف العشق ) حيث يريد الشاعر طمأنة المحبوبة لتمضي معه إلى آخر ما يريد , وهو يستدرجها كما يستدرج الصياد فريسته .
يقول مساعد الرشيدي :
ما قلت لك ... عمر سيف العشق ما يقتلك
....... ما تشوفني حي قدامك وأنا أموت فيك
علّنا لاحظنا استحضار الشاعر للمفردات الدالة على الجغرافيا ... جغرافيا الجسد وجغرافيا الحب كما في ( الريح ـ ثيابك ـ جمرك ) في البيت الأول , وكذلك ( ليل الحرير ) كما في البيت الثاني , وكذلك في البيت الثالث ( الدرب ـ الطريق ـ المدى ) وأيضا ( مسافة ـ مدار ـ فلك ) في البيت الرابع .
كان الشاعر يستحضر جغرافيا ... جغرافيا الأنثى ومساحة الانتشار عليه ومعه , ثم حصل عزل وانفصال عن جسد الأنثى ليأخذ طابع الغيبوبة وذلك في الأبيات , الخامس والسادس والسابع إلى أن وصل إلى ( سيف العشق ) الذي قضى على الاثنين معا .
في هذا البيت خرج الشاعر عن لغة الإيماءات والتلاعب بالمفردات التي مرّر عن طريقها الكثير مما لا يريد التصريح به علانية أمام المتلقي ... إنه في هذه البيت كشف الغطاء وأطلق العنان لنزواته متباهيا بهذا الشموخ الرجولي العروبي من خلال استحضاره لـــ ( سيف العشق ) بما في هذا الاستخدام من مدلول جنسي صارخ لا يمكن إنكاره أو غض الطرف عنه , أو البحث له عن مخرج فني أو لغوي آخر غير هذا المدلول .
لقد تحوّل الشاعر في هذا البيت من عاشق إلى صياد أو مفترس , واستحالت المرأة لديه من معشوقة إلى فريسة ... إنه يحاول طمأنة هذه المحبوبة التي تحوّلت إلى فريسة في هذا البيت بشكل واضح ... إنه يطمئنها لا من أجل إشعارها بالأمان وهي بين يديه بل من أجل أن تمكنه من إطلاق العنان لأشرعته أن تسافر إلى أقصى ما يريد .
أستطيع أن أقول ــ ورغم إعجابي الشديد بهذا النص ــ إن الشاعر كان في هذا البيت ساديّ النزعة , يتلذذ بتعذيب فريسته التي في الأبيات السابقة محبوبته ... وفي هذا التعذيب المستمر لذة استمرارية له ... فقد استخدم في مجال القتل , الفعل المضارع ( يقتلك ) الدال على الاستمرارية , وكذلك استخدم في مجال التلذذ والإحساس بالمتعة الفعل المضارع ( أموت ) الدال هو الآخر على الاستمرارية كذلك ... والموت هنا بمعناه الإيحائي المفهوم من عملية الالتصاق لا معناه الثابت الجامد المناقض للحياة والبقاء ... إنه الموت الدال على عمق الشعور بالنشوة والانتصار الجسدي عن طريق مداومة الاستمرار والحركة الارتدادية المتواصلة .
اشتقت لك فبل أجيك وجيت واشتقت لك
....... البارحة طول ليلي بين هذي ... وذيك
حتى يطول الإحساس بالمتعة ويطول مداه , انتقل الشاعر في ذهنه انتقالا معنويا مجردا إلى ( البارحة ) لخلق نوع من العزل إحساس جسده المشبع بالمتعة وتفكيره السابح في ملكوت الحب ... هذا الموقف ينصح به الكثير من الأطباء الأشخاص الذين يعانون من ظروف معينة خاصة , تقتل لديهم الإحساس بالمتعة واللذة ... والشاعر هنا يتعامل مع هذه المشورة الطبية بحذاقة متميزة .
مليت جمر انتظارك واستحيت أسألك
...... واحسبتني ما بعد جيتك وفكرت أجيك
لا زال الانعزال الذهني مستمرا مع الشاعر , مما يدل على طول فترة اللقاء والاستمتاع ... وما يؤكد هذا الكلام كثرة استعمال الشاعر للكلمات المتضادة والعبارات المتقابلة الموحية بتردد الحركة على مستوى السلوك والمشاعر ... إن هذا التضاد أو ذلك التقابل لم يكونا قسرا على هذا البيت , بل في كل أو غالب أبيات هذه القصيدة , وهذا يدل على أن كلتا حالتي الشاعر الوعي واللا وعي اشتركتا في كتابة هذا النص , حيث استحضر الشاعر كل أبجديات اللقاء بكل تفاصله .
أثرك بقلبي من البارح وأنا أستعجلك
...... وأثري نسيتك من الفرحة وقمت أحتريك
هنا نصل إلى آخر القصيدة المكتوبة وأول القصيدة الحقيقية ... القصيدة التي لم يكتبها الشاعر , وتركنا نحن نتخيلها بطريقة من خلال هذا التداعي الجميل للكلمات والمشاعر .
في هذا البيت اجتمع لنا اليوم والأمس
اليوم :
وأثري نسيتك من الفرحة ــــــ أستعجلك
الأمس :
أثرك بقلبي من البارح ــــــ قمت أحتريك
حقيقة ثنائية الأمس واليوم موجودة في البيت السابق وهي كمحاولة لخلق نوع من العزل المرحلي بين تفكيره وإحساس جسده .
في هذا النص انتفت شخصية الشاعر المتكررة في أغلب نصوصه , وهي شخصية الــ ( أنا ) لأنه في فضاء الإحساس بالحياة والسفر إلى الداخل متساميا بمشاعره وأحاسيسه الداخلية والخارجية التي أشعلها غراما إلى درجة انعدام التوازن .
إن الكتابة عن النصوص الجميلة نوع من الشعر ... وفي حالة الهطول الشعري يتنافى الكثير من أساسيات المنطق , لأن الشعر الجيد انقلاب على المنطق ... فالشعر حالة إنسانية روحانية , والمنطق إرهاص عقلي لا يخضع لمقاييس الروح والوجدان