[ و زرعتُ أزهاري
في تربةٍ صمّاءَ عاريةٍ
بلا غيمٍ ,, و أمطارِ
فترقرقت لما نذرتُ لها
جرحاً بكى برموشِ أشعاري ..]
أيّها الرّاحلُ هناك , توقّف فمنَ [ الخليجِ إلى المحيط لا زالوا يعدّونَ الرّمال ] ,
توقّف فما زالَ في جسدِ زهرِ اللّوزِ جرحٌ لم يفور , ما زالَ في زهرِ جسدِ اللّوزِ جرحٌ لم يغور ..
ما زالَ هناكَ أمنية , تنقلُ صوتكَ إلى القلوب الغافية ,
تحملُ حنجرتكَ المكرّسةُ لأغاني الوطنِ في أفواهِ الرّصاصِ إلى الأيادي الثّملةِ بالخيانة ..
توقّف ..
لا زالَ هناكَ [ أحمدٌ ] غافٍ على رصيفِ الجرحِ يبكي , يُطلقُ من فوهةِ عينيهِ قنبلةً تُسْقِطُ في كلِّ يومٍ وجهاً عارياً ,
و يسمعُ قلبكَ ينبضُ ,
فيتلو و أمامَ يديهِ غصنُ ليمونٍ [ سقطَت ذراعكَ فالتقطها , و اضرب عدوّكَ لا مفرّ ] ..
توقّف لم يبقَ في بيروتَ ألفٌ و باء , و على رفوفِ دمشقَ تصطفُّ العصافيرُ و تغترب ,
و القدسُ تئنُّ و في يديها [ تتكسّرُ السّماءُ على رغيفِ الخبز ] ,
و بغدادُ تنعي حزينةً جسدَ الحلمِ القتيل ,
و [ لا جديدَ لدى العروبةِ ] ..
يا محمود , لِمَ ترحلُ و تتركُ قصائدَ الوداعِ تائهةً على فمِ عاشقٍ يحلمُ بحمامةٍ تطيرُ و لا تخاف ,
تبكي و تجمعُ دموعها في سلّةٍ من قبلاتٍ لم ينفيها وطنٌ لأجلِ حزنٍ وجوازِ سفر ؟
يا محمود , بعضُنا باقٍ بعدكَ و كثيرنا رحلَ قبلكَ ,
هويّاتنا و انتماءاتنا و بعضٌ من دمنا قد سبَقنا في ريحِ الغيابِ ,
و بقينا ننعي قيودَنا الموؤدة و حريّةً تائهةً على شكلِ قلم ..
أيّها العصفورُ المناضلُ في شظايا أمّةٍ فقدّت بليلةٍ وشاحها الذّهبي,
و التحفت بقصيدةٍ تمحو خيبةً أورثها عقوقٌ بالأرضِ , بشبرٍ من الأرضِ ,
بذرّةٍ من ترابِ أرضٍ بلونِ دمِ النّوارسِ تحملُ في ثغرها قضيةً و جرحاً و أمّاً ثكلى , لا تزال عندَ عتبةِ البابِ تنتظر ..
عشرونَ عاماً كانَ أحمدُ العربيُّ يرحل , و عشرونَ عاماً , بقيتَ تحملُ جسدَهُ الصّغير , ليصرخَ في وجهنا :أنتم من انتخبتمُ المقصلة ,
لينثرَ فوقَ يدينا غيثَ دمهِ فترتجفَ قبلَ المصافحةِ و تتساقط ..
من سيبقى الآنَ و قد رحلت , و ماذا نفعلُ بأجسادِنا المتضائلة أمامَ جرحِ أحمدٍ ,
و وشاحِ [ صبرا ] المُنتَهَك , و جناحِ محمّد الدّرة الّذي يريدُ - فقط - أن يعودَ إلى البيتِ [بدونِ درّاجةٍ و قميصِ جديدٍ ]؟
ماذا سنفعلُ و في كلِّ يومٍ تتهالكُ مآقي اللّغةِ على عتباتِ الحروفِ المخبّأةِ في طبولِ الفراغِ و فوقَ أرصفةِ المنفى المستوطنِ في الجسد ؟
علّمتنا أن للدّمعِ جذوراً , و استبقيتَ في عينِ أمّهِ دمعتينِ لأجلِ أخٍ أو صاحبٍ , قد يكونُ أنت ..
و كأنّكَ كنتَ تعرفُ أنّنا سنبكيكَ و نقتلعُ الدّمعَ من جذوره ,
أننا سندمعكَ و يقتلعنا جذرُ كلماتِكَ من بكائنا , لنردّدَ صوتكَ العربيّ الضّاربَ في عمقِ الحزنِ الموشّى بقصبِ الحبّ .. و
[ عزاؤنا الموروث :
في الغيماتِ ماء ,
و الأرض تعطشُ ,
و السّماء تروى ,
و خمس زنابقٍ شمعيّةٍ في المزهريّة ]
أيّها العظيمُ , عمركَ باقٍ إلى الأبدِ في اللّغة , و لكنّها ستبكيكَ ,
ستبكي حاءكَ و الميم , و سترثي لحالِ قصيدةٍ نذرت لقافيتها دالكَ الهاربةَ من منبعِ الضّوء ,
ستبكيكَ بيّاراتُ اللّيمونِ و حقولُ القمحِ و كرومُ العنبِ و أشجارُ التّفاحِ و مزارعُ الزّيتونِ وغاباتُ السّنديانِ و الأرزِ و واحاتُ النّخيل ,
ستبكيكَ نوارسُ البحر و سنونواتُ المدينةِ و قمرُ الشّتاءِ و المطرُ في صلاةٍ أخيرة , و لوركا إذ يودّعُ تراتيلَ الصّدقاتِ في اسبانيا و يحملُ
[ آخرَ الأخبارِ من مدريد :
شبعَ الصّابرُ صبراً ] ...
أيّها الباقي في حناجرنا , تُشعلُ القصيدَ في أفواهِ دمنا ,
و تمنحُ بروحكِ إذ تحفّها ملائكةُ النّورِ سنابلَ القمحِ القديمِ طواحينَ الأفواهِ الصّدئةِ بالغيابِ و الرّحيل ,
فتنتثرُ اللّغةُ فوقَ مُدنِ الكلامِ كخبزِ غيمةٍ حُبلى بتلاواتِ الأرواحِ المكلومة ..
أنتَ أيّها المهاجرُ في الصّبحِ البعيدِ , على زندِ قصائدكَ ستولدُ ألفُ ريتا و تغفو كجفني سماءٍ تكتحلُ المساءَ و تودعهُ ثغرها الصّغيرَ سرّاً لبندقيّة ..
الآن إذ نصحو , سنتذكّر [ طريقَ دمشق ] و [ قصيدةَ الخبزِ ] و [ الرّملِ ] و [ الأرض ] ,
و سنحملُ [ عبء الفراشات ] على أكتافِ حطّابٍ و عاشقة ..
الآن إذ نصحو , سنذكركَ و في عينينا أمنيةٌ أن يبقى هذا الدّرويشُ العربيُّ , حنجرةَ الأجيالِ القادمةِ ,
و يدهمُ النّاطقةُ بحقِّ الدّمِ الغائرِ في الأرض ,
أن يبقى حبّهم المتّسع كحقولِ الذّرةِ و غزلهمُ الممزوجَ بالأزهارِ و البارود ,
و أطفالهم البريئةُ الّتي تكتبُ على جدرانِ ضميرهم كلَّ يومٍ حكايةَ الوطنِ الجريح ..
:
في قلوبنا باقٍ , و إلى رحمةِ اللّهِ مرتحلٌ يا محمود ..