ربما يكون التجدد سمة من سمات التطور الفكري اكثر من كونه رغبه او حاجة لديمومة هذا الفكر او اثرائه , في مواجهة منهج الاجترار والاقتيات على الافكار الجاهزة والقوالب المحنطة لبيئة الفكر؛ من هذا يجد الفكر والمفكرون انفسهم امام حاله من الانقياد لحتميه وقوع هذا التجدد في بنيه الفكر عموما وما اتصل منها خصوصا بالفكر الادبي ؛ الذي يمثل مؤشرا على تطور او تراجع الفكر باعتبار ان الادب بفروعه المختلفه هو اما ان يكون انعكاسا للافكار المسيرة لواقع الفكر ممثلا المؤشر والمقياس لمقدار التجدد او النكوص الذي يعيشه هذا الفكر , او ان يكون اداة دافعة لهذا التجدد وليس فقط متاثرا به رغم وقوع التاثر لا محالة .
وبالرغم من تميع المفاهيم واختلاطها ظاهريا في عالمنا العربي حول ماهية كل من الفكر والادب ومدى شمولية الاصطلاح لكل منهما ؛ الا اننا نجد سطوة الفكر بكافة جوانبه الغيبية والماديه والمجتمعيه على واقع ادبي يكاد يعاني الكثير من الاشكالات ؛ ولعل اكثرها اهمية هي مدى مقبوليه الفكر الادبي العربي نسبه لما يعيشه الفكر السياسي والديني والاجتماعي من ازدهار في بيئه لاتحفل كثيرا بالادب ولا تعتبره ضمن هرم حاجاتها , بل يكاد يكون سمة من سمات الترف والتمظهر اكثر من كونه دلاله على النبوغ او الرغبة في ايجاد مرتكزات عامة يتم من خلالها وضع صياغات جديدة للتواصل واستقراء افاق جديدة للمعرفة ؛ ناهيك عن عدم قدرة الفكر الادبي لدينا على اقتحام المتلقي بسبب حصانه هذا المتلقي ضد اي نوع من انواع التنظير يمكن له ان يسقط ما يعتبره سمة او هوية فكريه غير قابلة للتغيير او حتى للبحث .
وهكذا يجد المثقف العربي نفسه امام مجموعه من الاشكاليات والتحديات التي تغلف الصراع غير الخفي بين تياري التجديد والاجترار ؛ رغم عدم وضوح السمة الثقافية لهذين المنهجين وعدم ارتكاز اي منهما على نمطية محددة وخضوعهما للتقلبات الانية والمرحليه التي تصل الى حد الشخصيه واللاموضوعيه في استقراء كل من المنهجين , ولعل من ابرز هذه الاشكاليات هو وجود قناعه اكيدة لدى المثقف العربي بحتمية التجدد كحقيقة علمية وتاريخية يمكن بحثها بمعزل عن الحالة الراهنه ومدى رغبتنا في تعميم هذا المنهج او ذاك وكذلك بعيدا عن التجارب التغريبيه الفاشله التي اكدت ان الحل يجب ان ينبع من صميم التجربة لا من خارج حدود تاثرها بشكل يسمح للبيئة الحاليه بتقبله بدلا من جعل هذا التغيير هو محاولة للتشويه من الداخل باعتماد ادوات من الخارج .
ولعل شعور المثقف العربي بحتمية هذا التغيير هو الذي ادى بالكثير من المثقفين الى محاولة القفز على الوقائع كما هي على الارض , واستعجال نهضه ادبيه قادمة لا محاله في محاولة لقطف ثمار لم تنضج بعد او لايجاد دور مفترض لهم في اي عملية تغيير قادمة , مما ادى الى ظهور تيارات متغربه في داخلها لاعلاقة لها بالتلاقح الفكري المثري مع الاخرين من حيث التاثير والتاثر وربما كان لهذا الفعل رد فعل معاكس ادى الى ظهور تطرف من نوع اخر لا يرى في التجديد الا محاولة يائسة لهدم المقتنى الثقافي للامة باستخدام وسائل او شعارات لاتحترم الاصاله والتراث وتحاول الاجهاز على قيم الخصوصية الثقافية للامه وتذويبها لاثراء عولمة لم تتضح معالمها بعد .
وهذا يقودنا الى الاشكاليه الثانية وهي حدود هذا التغيير او التجديد ومدى شموليته واتساعه ليطأ اماكن طالما استعصت على الجيل الاول , فظلوا يدورون حولها ويدرسونها بشكل بعيد عن الواقعية العلمية خشيه ان يتجاوزوا بعض الثوابت التي لايمكن البحث فيها فضلا عن المساس بها , وربما كانت هذه الاشكاليه هي الاكبر في هذه المرحلة باعتبار ان الفكر المضاد للتجدد اخذ يسيطر على الخطاب الفكري العربي وخصوصا في العقدين الاخيرين بسبب عدم طرح صياغات توضح حدود التغييرات المفترضه وماهية المجالات التي يمكن نقاشها والثوابت التي لن يتم المساس بها من قبل النحبة العربيه الملتزمة بالتغيير والتجديد كمنهج حتمي يحاول الجميع ادارة دفته لصالح الحفاظ على الثوابت .
ان عدم وضوح هذه الرؤية لدى النخب الفكريه العربيه اعطى المجال لطرح افكار جريئه من قبل افراد اتضحت لهم رؤى معينه او حاولوا تطبيق رؤى جاهزة مستورده قافزين على واقع بيئتهم في محاولة لزيادة التعجيل في سرعه الانقياد لمشهد غير مكتمل الملامح , مما فتح المجال للقادحين بجدوى عملية التجديد للنيل منها واعتبار حتى النخبة الملتزمة بالتغيير المنهجي تسعى لهدم الهوية والخصوصيه الفكرية ولكن بشكل ابطأ مما جعل عملية التغيير بحد ذاتها متارجحة مابين مطرقه التحديث القسري وسندان الجمود الفكري مع الاقرار بحتميتها وشموليتها .
ولعل الاشكاليه الاهم تنبع من عدم الاتفاق على اهمية حدوث التغيير من الداخل كما هوالحال في التجارب الاخرى المحيطة بنا , مما يحافظ على خصوصيتنا القومية كما يودي الى ايجاد حلول ذاتيه للاشكالات الخاصة , ولان التغيير يبدا من الداخل فلابد ان يرافقه محاولة تصحيح الاخطاء التي لايمكن التغاضي عنها ضمن خصوصيتنا الفكريه لعدم جدوى محاولة حلها باستخدام تجارب الاخرين , اما بسبب عدم وجود مشاكل مماثله لديهم او بسبب عدم نجاعة الحلول التي استخدموها وعدم قابليتها للتطبيق ضمن بيئه اخرى وخصوصا اذا كانت بيئة تمتاز بالسمات الاقصائيه المتفردة .
ولعل سلطة الجمود الفكري السائده والمجترة للنتاج الثقافي والمجتمعي بشتى الحجج واهمها الالتزام بالاصاله والتراث والحفاظ على الخصوصيه وغلق المنافذ امام رياح التشويه , لعل هذه السلطة قد كبحت جماح التغيير والجمت الرغبه فيه تحت قسوة سياط الترهل الفكري وانحياز الاكثريه للتراث , ليس للاعتقاد بعدم جدوى الحداثه وانما خوفا على التراث كما يرونه بدلا من اعادة صياغته وطرحه ليشكل جسرا يربط بين ماض مفعم بالنجاعه الفكريه ومستقبل يراد له ان يكون اكثر قربا من واقع منشود .