يبذل النقد الحديث جهوداً واضحةً في التـفريق بين كلمتي " الرؤيا " و " الرؤية " يقيناً بضرورة هذا التـفريق ومحاولة تحديد ملامح هاتين
الكلمتين .
ولولا هذه الأهمية لِوضع تعريفٍ لهما ما اشتغل أكثر النقاد على تقليص الخطورة بينهما .
إنّ الشعر إذ ينطلق من الشاعر باتجاهنا لا يأخذ معه إلا خالقه وموجده ،
معجوناً بحدسه وخبرته ، بنفسه ونظرته برؤاه للأشياء وبدؤها مروراً بانتهائها لا يلامس الأشياء من الخارج بل يتعمّق فيها و يمنحها شكلاً لا يليق بها إلا من خلاله .
إنّ توحد الشاعر مع العالم المحيط به ومنح هذا العالم دهشته ورؤاه وحلمه وفتنته يجعله يحتضن هذا الوجود بالشهوة والجنون والرؤيا .
يقول ماجد فخري : " إنّ الرؤيا في الشعر هي نفاذ الشاعر ببصيرة ٍ ثاقبة إلى ما تخبّئه المرئيات وراءها من معان ٍ وأشكال فيقتنصها ويكشف نقاب الحسّ عنها وبذلك يفتح عيوننا على ما في الأشياء المرئية من روعة وفتنة"
ويقول مارتن هيدجر " إنّ شعر الرؤيا هو ذلك الضرب من الكلام الذي يرفع النقاب من البداية عن كل شيء وعن كل ما نتناوله ونتداوله بعد ذلك في لغتنا اليومية الجارية "
كما يوضّح غالي شكري " أنّ شعر الرؤيا يستمدّ ملامحه من جماع التجربة الإنسانية التي يعيشها الشاعر في عالمنا المعاصر بتكوينه الثقافي والسيكولوجي والاجتماعي ، وخبراته الجمالية في الخلق والتذوق ومعدل تجاوبه أو رفضه للمجتمع وطبيعة العلاقة بينه وبين أسرار الكون "
بينما يناقض ما سلف كلمة " رؤية " التي تعني " فعلاً جسدياً محضاً لا يلامس غير السطح من المرئيات ولا يصل إلى مكنونها الداخلي وما في صمتها البارد من توحش " .. علي جعفر .
ويرى ماجد فخري : " أنّ الشعر الذي يقتصر على الوصف التصويري للطبيعة أو على سرد الأحداث والمجريات يكاد لا يعدو نطاق الرؤية " ويرى أنّ شعراً كهذا هو أحطّ أنواع الشعر لأنّه يقتصر على استعراض ٍ
للجزئيات المرئية وهي مبذولة لكل ذي باصرة فأي فضلٍ للشاعر في التنبه إليها ؟ "
وصنّفها غالي شكري بأنّها الرؤية الفكرية للواقع والفن التي تمنح الأولوية في عناصر التجربة الشعرية للعنصر الاجتماعي والدلالة السياسية " .
من ذلك :
تعتبر الرؤيا رديف الحلم والامتزاج بالكون والتوحد بأشيائه ، إنّها عينٌ لا تنظر لتتحدث فقط بل تتحدث أثناء النظر، في اللحظة التي تُدهشك الأشياء تولد الرؤيا كحلم ،إنّها تستخدم استخداماً مرادفاً للحدس والسحر والتوق الصوفي فهي ترفعك حيث العمق وتُنزلك حيثُ العلو .
"والشاعر في مفهوم الرؤيا الحديثة ليس وصافاً أو مراقباً أو معلقاً على ما يراه إنّ هؤلاء جميعاً يقفون على مبعدة من شهوة العالم أو بهجته المباشرة ، في منأى عن رذاذ الدم والأنين الذي يتطاير من قلبه المهشم ، وعينيه المطفأتين فهم يلمحون العالم ويبصرونه . والقصيدة لديهم في هذه الحالة تسجيل لفعل المشاهدة ، وصف وجداني لما يبدو عليه العالم ظاهرياً من رصانة أو تصدع " .. علي جعفر
النموذج
يعتبر جوزف حرب شاعراً مغموساً بهذا الكون من أصغر جزءٍ يمكنه أن يراه إلى ما نراه ولم نرتكبه ، ليس الشعر عند جوزف حرب وصفاً للأشياء وإنْ قُرئ كذلك ، بل هو العمق في الوصف والذي لا يمكن فصله عن حياة الشاعر وتجربته وامتزاجه بما حوله :
يقول في نص ٍ له بعنوان " كذابين "
" بالشعر
تمّ الحبيب بْنَفْسجي
وغيم البْحُورا تخت
والنهر
تِعْلِيقا
عليها هـ الشجر قمصان خضرا مْعَرّقا عَلَّقت
وِالشهر
سْنان
مشط الوقت
ماكنت صَدّق كل حكْي العُلما ،
وكَذب علي الشعر
صدقت "
ما وراء الكذب إلا صدق الحدس بالأشياء ، والعلماء وَصَفَتُ الأشياء بِلا معان لذلك لا يُصدّقون إنْ صدقوا لأنّهم كذبوا بعد الصدق فجاء الشاعر كمن يقسم ألاّ تصدقوه فيُتّبع .
هي حكمة الشعر أنْ ترى الحكمة فقط فلا ترتكبها ،والعلماء يرتكبون ما يُعتقد أنّه " حكمة "
ليتفاجؤا بالإعراض عنهم بينما الإقبال على الشعراء الذين صدقوا بالكذب فأتقنوا حكمته .
في نص " تأليف "
" بيِقْعُد شهر أيلول
تَيْألّف شعر ،
بينزّل وراق الشجر ، وبْيكْتبن فوق التراب
حروف زرق ، وحمر
حروف
سود وصفر
بِيْرتّبن ، بِيْجيْب محّايِة هوا ،
بْيِمْحي الغلط
وبِيْطال غَيْمي مْن الشّتي ،
وبينزّل عليهن نُقط "
ليس شهر أيلول زمناً وليس لوصفه مكان هي الرؤيا المعجونة بالتجربة
هو وضع الأشياء وتعريفها / تعريتها
الشعر ألوان تنزل ولا تسقط
الزفير خطأ ،
الشهيق صح ،
الهواء هو من يقوم بعملية التصحيح كالممحاة ،
النقاط على الحروف اكتمالٌ لدورتها - أي الحروف - كما أنّ المطر اكتمال لدورة الماء .
لا شيء يُرى هنا غيرُ الصورة ، لا تقل أنّ بروازها لا يتلاءم معها لأنّك ستفاجأ بأنّ يداك
هما البرواز .
وفي نص " جفن " يقول :
" عِنْدِ الغْيَاب ، البحر دمع
الشمس فوق البحر ، عين
حمْرا وغْمِيْقا ،
مِتْل بِرْكة حِزن .
والغَيْم فوْقا
جفن
شَكْلُو شَكْل جَمْرا
عَ كِفّ رْماد ،
مِتْل اللي طالع
للِدّني شِحّاد "
ليس هناك طريقاً إلاّ بالقول بأنّ الجفن كالشحاذ ذلك الطريق هو الشعر الذي مشى عليه جوزف حرب في هذا النص
كأنّه لا يريدك أنْ تبتسم من غباء الوصف لو لم يمش ِ ذلك الطريق / الشعر / الرؤيا .
مع الانتباه إلى وعورة ذلك الطريق كما قال فهد عافت " كل درب ٍ وعر : شعر "
وفي نصّ " اللّـغا "
" اللّغا عِنَب
يا مِيْن يَعْرِف يِعْصرا ،
وِيْقَطّرا ،
وِيْعَتّق نْبِيدا
بليل المحبرا ،
حتّى بِحَالا
يِسْكِرا "
امتزاج المحسوس بغير المحسوس ، بل تحوّل الغير محسوس إلى ما يُرى.
ليس التحوّل بالمرحلة الواحدة بل قبل ذلك دخول ذلك الغير محسوس / اللغة
إلى الطبيعة / عنب ، ليس وقوفاً عند هذا الحدّ لأنّ ذلك سيؤدي إلى السقوط
الفتنة هنا في تلك المسافة بين " الساقط " وما يُسقط عليه
هذه المسافة التي لم تكن نزولاً بل صعوداً حيث العقل و"النبيد " .
مرحلة تحوّل اللغة – كمرحلة أولى - إلى محسوس تعتبر مرحلةً سهلة ،
ما يحتاج " للعصر والتقطير والتعتيق " هي المرحلة الأصعب في هذه العملية التي التقطها جوزف حرب من هذا الكون برؤاه المتلاحمة مع تفاصيله الدقيقة .
ما يُقال هنا في تحوّل ٍ آخر / ثالث للغة هو " الكتابة " إذ لو لا وجود الكتابة لاستُغنيَ عن المحبرة .. وهذا التحوّل ممزوجٌ بالمحسوس من الأشياء من صوت ٍ - غير محسوس - إلى كتابة - محسوس - كأنّ جوزف حرب هنا يريد قول شيء ٍ لا يُحتمل قولهُ ، فصرخ .
أنْ تُختصر اللغة بهذه الكلمات " هي معجزة اللغة " الأبدية والفاتنة
اختصار تاريخ ٍ ومنزلة .
وفي نصّ " ناي " يقول :
" الدِّنيي وَرَق ، والأرض
عَمْ بِتْدور
مِبْرايي .
وْنِحْنَا قْلام مْكَسّرا ،
وِالوَقت
مِحّايي "
فيزيائياً ، نفسياً ، شعرياً
من استطاع مزج ما سبق ليخرج إلينا بفتنة الاختصار !
وحده جوزف حرب قال أنّ هذه الدنيا بامتدادها ورقةٌ ناصعٌ بياضها تسرّ الناظرين ولكنّها ليست للكتابة ، بل للافتتان بها فمن راودها عن
نفسها سيفاجأ بـ"الانكسار ، والممحاة ، و البَري المؤدي للنهاية ".
لأنّ الحياة لديه ورقةٌ تُملأ ، لكنّ تلك السبل المؤدية لارتوائها " سرابٌ وعطش " .
ـــــ
هنا الرؤيا تؤتي أُكُلها بكامل حلّها ، ولأنّ الشعر معقودٌ بنواصيه الفِكر و الحدس والكون
فهو لا يأتي برؤية ٍ يمتلكها الجَمْع ، بل برؤىً يمتلكها القلّة من الشعراء الممزوجين بأطراف
هذه الحياة من بدء الأشياء إلى ما لا نهايتها ، ولكنّها ممكنة الحدوث على مقربة ٍ من شعر.
.